يشهد الشمال السوري في المرحلة الراهنة على أخطر مواجهة اقليمية–دولية عرفتها المنطقة منذ سنوات. فبعد انتهاء ما عُرف بالحرب على "داعش" والتي بدا خلالها كل الأطراف متفاهمين ومتعاونين في قتال التنظيم المتطرّف، انطلقت عمليا الآن المواجهة بين اللاعبين على الساحة السورية لتثبيت سيطرتهم على المناطق الشاسعة التي أخلاها المتطرفون والتي بمعظمها تحوي الثروات الطبيعية الأساسية في سوريا. وتتخذ المواجهات بين هؤلاء والتي لا تزال تخاض بمعظمها بـ"الوكالة" أشكالا متعددة وغير مسبوقة، مهّدت لانخراط بعضهم بشكل مباشر في العملية المستمرة لتناتش مناطق الشمال السوري وتنفيذ أجندات متضاربة، تهدد باشعال الأزمة السورية من جديد وادخالها المنعطف الأخطر على الاطلاق مع عودة الحديث عن التقسيم.
ولعلّ دخول واشنطن مجددا الى حلبة الصراع السوري بعد انتهاء الادارة الجديدة من ترتيب أوراقها وتحديد أولوياتها، كان العامل الرئيسي في اطلاق مرحلة المواجهة الأصعب. وتخوض الولايات المتحدة الأميركية اليوم كباشا على أكثر من محور، سواء مع أنقرة على خلفيّة دعمها المستمر للأكراد، والذين تعتبرهم شركاءها الرئيسيين ان لم نقل الوحيدين في الميدان السوري، اضافة للكباش المستمر مع موسكو والذي يتخطى الحدود السوريّة في ظل مساعٍ روسيّة لاعادة لعب دورها كقطب عالمي رئيسي ينافس أميركا، وصولا للكباش المستعر مع ايران والذي تتعاطى معه الادارة الأميركية كأولوية في المنطقة، وتبذل جهودا شتى لحسمه لصالحها من خلال زيادة الضغوطات الماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة وحتى العسكريّة على طهران والمجموعات التابعة لها.
وينذر السجال المستجد بين مسؤولين اميركيين وايرانيين حول منطقة شرق الفرات، خاصة بعد تهديد مستشار المرشد الأعلى الايراني علي أكبر ولايتي بـ"طرد جبهة المقاومة المتمثلة بايران والعراق وسوريا ولبنان القوات الأميركية من شرق الفرات"، بدخول المواجهة الايرانية–الأميركية مرحلة جديدة بعد اعلان "محور المقاومة" نيته استرجاع أراضي شرقي النهر والتي تُعتبر بمعظمها مناطق غنيّة بالثروات الطبيعية، وهو ما تحدّث عنه صراحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في اطلالته الأخيرة. الا أن واشنطن تبدو في المقابل، حازمة تماما في التعاطي مع ملف "شرق الفرات"، باعتباره يشكل بالنسبة لها "حصتها" من سوريا والتي تبلغ مساحتها نحو 28 ألف كيلومتر مربع، ويسيطر عليها حلفاؤها الأكراد، لذلك تراها جاهزة لاي مواجهة تفرض عليها للدفاع عن هذه الحصة.
ولم تتردّد الولايات المتحدة بتعريض حلفها مع أنقرة للتفكّك الكلّي في ظل الخلاف المتمادي بين الطرفين حول ملف وحدات الحماية الكردية. وبالرغم من التطمينات التي حملها وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسسون الى الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان الأسبوع الماضي بخصوص "انسحاب القوات الكردية من منبج"، الا ان الطرف التركي يبدو مشكّكا تماما بالموقف الأميركي، نظرا للتجارب السابقة، والتي أثبتت ان واشنطن لم تلتزم فعليا بأي تعهد او وعد قطعته لأنقرة بخصوص الأكراد، وهو ما أدّى عمليا لتعاونها مع موسكو وشن عملية "غصن الزيتون" المستمرّة في عفرين. وقد نُقل عن أحد المقربين من أردوغان قوله ان "جميع الوعود والتعهدات والعروض التي قدمها رئيس الدبلوماسيّة الأميركية لإعادة تطبيع العلاقات مع تركيّا في أنقرة سيظهر كذبها، لتكون الولايات المتحدة أضافت كذبة جديدة إلى تاريخ أكاذيبها".
أما الجانب الكردي، فيبدو الى حدّ كبير مطمئنا لاستمرار واشنطن بتأمين الدعم المطلوب له، وان كان لا يزال عاتبا على الموقف الاميركي البارد حيال ما يحصل في عفرين. ولا تتخوف مصادر كرديّة مما أشيع عن "تفاهمات دولية–إقليمية جديدة حول انتشار قوات أميركية–تركية في مدينة منبج على ان يتم إخراج الوحدات الكرديّة إلى شرق نهر الفرات مقابل "وجود رمزي" لقوات النظام السوري في مدينة عفرين برعاية روسية". وتقول المصادر: "سمعنا أكثر من ذلك في الفترة الماضية، ولم يتحقق اي شيء منه. ما يحصل الآن هو جهد اميركي خلال زيارة تيلرسون للمنطقة لاستيعاب النقمة التركية، لكن ايا من هذا الكلام لن يلقى صدى في الميدان، فكما نحن ماضون بمواجهة التفاهم التركي–الروسي في عفرين كذلك سنواجه اي تفاهم اقليمي او دولي آخر سواء في منبج او في اي منطقة اخرى خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية".
بالمحصّلة، تمهد التعقيدات المحيطة بالشمال السوري نتيجة تداخل الاجندات الاقليمية والدولية والصراع على الثروات الطبيعية، بتجدّد الازمة السوريّة واتخاذها لأبعادٍ جديدة وخطيرة في ظل الفشل المتمادي بتحقيق أيّ خرق يذكر على مستوى الحل السياسي بخاصة بعد اعلان النظام السوري بصراحة مؤخرا رفضه لمقررات "سوتشي".