بعنوان "نظرة عن كثب إلى عمل المحكمة الدَوليّة الخاصة بلبنان"، نظّمت هذه المحكمة ندوة في لاهاي في هولندا الأسبوع الماضي، شارك فيها 24 صحافيًا من وسائل إعلام لبنانية وعربيّة مُختلفة، وذلك للإضاءة على آخر تطوّرات التحقيقات في قضيّة إغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في 14 شباط 2005. فهل من جديد في هذا المسار، وهل من أمل في إعلان قريب لنتائج التحقيقات، وهل من إمكانيّة لإعلان الحقيقة الكاملة ولتوقيف المنفّذين والمسؤولين عن هذا الإغتيال؟.
أوّلاً، لا بُد من الإشارة إلى أنّه بعد مُضيّ 13 سنة كاملة على إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وبعد مرور 8 سنوات على تشكيل لجنة التحقيق الخاصة بلبنان، من خلال قرار مجلس الأمن الدَولي رقم 1757، فقدت هذه القضية الكثير من بريقها وزخمها، وفقد الرأي العام الذي كان يُتابع أعمال المُحاكمة بشغف، حماسته تجاهها، لا سيّما بعد التنازلات والمُساومات التي تمّت على خلفيّتها. وليس بسرّ أنّ التأخير بعمل المحكمة لم يأت صدفة، بل جاء نتيجة سلسلة من العوامل المُتداخلة، وفي طليعتها مُحاولة عرقلة قيامها عبر منع المُصادقة رسميًا في لبنان على قيامها، ما إضطرّ مجلس الأمن الدولي إلى التدخّل لفرضها، والحملة السياسيّة والإعلاميّة والمعنويّة ضُدّها، والترهيب والتهديد ضُد المُتعاونين معها، ومُحاولة وقف تمويلها وعرقلة عملها الميداني في لبنان، إلخ. وجاء هذا التأخير في عمل المحكمة خُصوصًا نتيجة سلسلة الإغتيالات التي طالت المُحقّقين اللبنانيّين العاملين على قضيّة إغتيال الحريري، بدءًا بمُحاولة إغتيال الرئيس الأسبق لفرع المعلومات العقيد في قوى الأمن الداخلي سمير شحادة في منطقة الرميلة في 5 أيلول 2006، مُرورًا بإغتيال الرائد في قوى الأمن الداخلي وسام عيد عند تقاطع الشفروليه في الحازمية في 25 كانون الثاني 2008، وُصولاً إلى إغتيال الرئيس السابق لشعبة المعلومات العميد وسام الحسن في إنفجار إستهدفه في الأشرفيّة بتاريخ 19 تشرين الأوّل 2012.
ثانيًا، لا جديد جذري يُضاف إلى التهم السابقة التي كان وجهها فريق الإدعاء في المحكمة ضُد كل من مُصطفى بدر الدين وسليم عيّاش، كمُعدّين للإغتيال مع آخرين، إضافة إلى حسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا، وحسن حبيب مرعي، كمعاونين إلى جانب آخرين أيضًا. يُذكر أنّ نظريّة الإدعاء ترتكز إلى ربط مجموعات من الهواتف بعمليّة الإغتيال، بدءًا بمراقبة موكب الحريري حتى تنفيذ التفجير الذي إستهدفه، وذلك إستنادًا إلى مواقعها خلال تحرّك الموكب ولحظة تنفيذ الجريمة، وإلى أوقات نشاطها وإقفالها. كما ترتكز إلى ربط مُستخدمي هذه الهواتف ببعض الأشخاص الذين جرى التعرّف إلى هويّاتهم بشكل تدريجي. وفي حين يردّ فريق الدفاع في لاهاي أنّ هذه الأدلّة ظرفيّة وغير كافية لإثبات التورّط بجريمة، عمل "حزب الله" الذي لا يعترف بالمحكمة، وعلى مدى سنوات، على التشكيك بالعاملين على تفنيد "داتا" الإتصالات، وتحدّث مرارًا عن إحتمال حُصول خروقات من قبل عملاء لإسرائيل، إلخ. ما يعني أنّ هذه الأدلّة ستبقى محلّ تشكيك معنوي من قبل مؤيّدي "الحزب" حتى لوّ صدر حُكم نهائي مُثبت.
ثالثًا، مع إعلان المُدّعي العام في المحكمة الدَوليّة، نورمن فارل، "... إختتام التحقيقات وفترة الإدعاء" إلا في حال ظُهور أدلة جديدة تستوجب مُعاودة التحقيقات، وهذا الأمر مُستبعد كليًا بسبب عدم مُتابعة أي تحقيقات ميدانية جديدة في لبنان، فإنّ موعد ختام أعمال المحكمة وصُدور الحكم النهائي صار مُرتبطًا بالفترة الزمنيّة التي سيستغرقها فريق الدفاع. وهنا لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ "حزب الله" الذي يرفض الإعتراف بالمحكمة من أساسها، لا يُشارك بشكل مُباشر في الدفاع عن أيّ من المُتهمين الواردة أسماؤهم بإدعاء المحكمة والمُنتمين إلى "الحزب". لكنّ بحسب المعلومات المتوفّرة فإنّ فريق الدفاع الذي يُدافع طوعيًا عن عدد من المُتهمين غيابيًا، سيستغلّ حقّه المشروع بالدفاع لمُحاولة إثبات ضعف الأدلّة ضُد المُتهمين، والهدف الأساسي من وراء ذلك، تأخير صُدور حكم المحكمة النهائي لأطول فترة إضافيّة مُمكنة، باعتبار أنّ التأخير السابق أضعف عمل ومصداقية المحكمة بشكل كبير.
رابعًا، كما أكّد المُدّعي العام في المحكمة الدَوليّة، نورمن فارل، فإنّ هذه المحكمة "لا تسعى إلى مُحاكمة أحزاب سياسيّة مُحدّدة أو كيانات أو حتى دول، بل تطال الأشخاص المعنويّين والأفراد المُتهمين بضُلوعهم في إغتيال الشهيد رفيق الحريري، وبمُشاركتهم في هذا العمل الإجرامي"، ما يعني عمليًا أنّه حتى في حال إنتهاء المُحاكمة، وصُدور الحكم النهائي، وإدانة مجموعة من الأشخاص، فإنّ المسألة ستقتصر على إدانة معنويّة لا أكثر لبعض الأفراد والمُنفّذين الصغار، خاصة بعد مقتل عدد من المُشتبه بهم، وبعد إختفاء مُشتبهين آخرين. وبالتالي، كل الكلام السابق عن مُحاكمة المسؤولين عن الجريمة، كان يدخل في سياق الخُطابات السياسيّة غير المُرتكزة إلى أسس متينة. وبالنسبة إلى التعويضات التي يُطالب بها المُتضررون من الإنفجار الذي طال الحريري، فإنّه حتى لوّ تناول الحكم النهائي حقّهم في هذا السياق، فإنّ عدم القبض على أي مُتهم، وعدم تحميل أي مُنظّمة أو كيان أو دولة مسؤولية عمليّة الإغتيال، يعني أنه لا تُوجد جهة مُلزمة بالدفع.
في الختام، وفي إنتظار أن تُصدر غرفة الدرجة الأولى في المحكمة الدولية الحُكم النهائي، لا توقّعات كبيرة بشأن تغيير جذري عمّا صار معروفًا من مواقف، لجهة توقّع إدانة مجموعة من الأفراد المُنتمين إلى "حزب الله"، في ظلّ تشكيك "الحزب" ومن يؤيّده بأدلّة المحكمة وبعملها وهدفها من أساسه، علمًا أنّه بدا من خلال تجارب السنوات الماضية أنّ العوامل السياسيّة المُختلفة، وموازين القوى على الأرض محليًا وإقليميًا ودوليًا، ومصالح القوى المعنيّة بالإغتيال والمتهمة بها، وغيرها من العوامل، هي التي طغت على أيّ إتهام في السابق، وهي التي ستطغى على أي حكم نهائي في المُستقبل. وبالتالي من ينتظر العدالة الأرضيّة عليه أن ينسى الموضوع... ويأمل خيرًا من العدالة السماويّة!.