لو قُدِّر لبعض “المتعقّلين” على ندرتهم استنهاضُ قانون “الستّين” غير المأسوف عليه، لما رفضوا، لا من أجل الاستنجاد به والتذلُّل له هو الذي أذلّ الناخبين والمرشّحين عقودًا، بل ليخبروه عمّا فعله بهم ولهم القانون المختلط الجديد.
أمِن علامات الصحّة ما يحدث اليوم على الساحة الانتخابيّة من تنافسٍ متفلّت من كلّ المعايير أم هو من علامات “القيامة”؟ أتلك الرائحة المنبعثة من دور السلطة وغير السلطة كريهة حدّ أننا نتمنّى لو بقي “الستّين” على قيد الحياة أم أنّ المشكلة “بيولوجية طارئة” في أنوفنا التي ما اعتادت سوى اشتمام الخنوع؟ أهو القلبُ يفطر على أبناء البيت الداخلي المتقاتلين في ما بينهم بحثًا عن صوتٍ تفضيلي أم هي فرحةُ القلب بعد عقودٍ طويلة من الانتشاء التافه بالمحَادل؟
الأكيد أنّ العهد الجديد أنجز ما لم يُنجزه عهدٌ من قبله، والفضلُ في ذلك يعود إلى وعي رئاسيٍّ “ثلاثي” أبى إلا أن يحمل العهدُ جديدًا كما وعد رئيس الجمهورية في خطاب القسم وكما وعدت الحكومة في بيانها الوزاري.
لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره كثيرون من أبناء العهد الجديد عن “كرامةٍ” استعادها لهم القانون الجديد. سيخبرونه عن وجوهٍ جديدة طامحة قرّرت خوض التجربة التشريعيّة وأفلحت في “اقتحام” برلمان سكنته الوجوه نفسها منذ دورة العام 2009، ومنهم منذ دورات عدة خلت. لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره اللامتحزّبون عن تجربةٍ فريدة منحهم إياها مفهومان طارئان على الحياة السياسيّة اللبنانية: الحاصل الانتخابي والصوت التفضيلي. لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره كثيرون عن نهاية عصر “توقُّع” النتائج سلفًا واطمئنان أيِّ حزب إلى أن الخرق غير وارد لأن الجرفَ الشعبي سيرتقي به إلى حيثما أراد. لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره المسيحيّون عن حقٍّ بدَهي مفادُه أنّ أبناء “النهضة” عاد لهم القرار في اختيار ممثليهم بعدما كان الآخرون يختارون ممثليهم عنهم. لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره أبناء المجتمع المدني عن فرصةٍ حقيقيّة لهم للمعارضة من الداخل. لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره كثيرون عن تحالفاتٍ تُنسَج، ما كان اثنان يحلمان بولادتها ذات يوم.
لو عاد “الستّين” يومًا سيخبره كثيرون عن التغيير الذي قد يُحدثه قانونٌ مماثل ولو أتى طفيفًا بيد أنه يندرج في خانة “التغيير” طالما أنّ النسبيّة أعادت لكلّ صاحب حقٍّ في الترشُّح ونشدِ الفوز حقَّه. أمام هذه الصورة الورديّة، ولو عاد “الستّين” يومًا أيُخبره هؤلاء أنفسهم عن التصدّعات الكريهة التي أحدثها هذا القانون في صفوف الحزب الواحد؟ أيُخبره هؤلاء عن تأثير الصوت التفضيلي على أبناء الدائرة الواحدة لا بل القضاء الواحد لا بل المنطقة الواحدة لا بل الحزب الواحد؟
لو عاد “الستّين” يومًا أيُخبره كثيرون عن الإسفاف الذي بلغته الخطابات المتضاربة التي لا يمكن لأحد تسويغها في عبارة: “طبيعي الشحن الانتخابي”؟ لو عاد “الستّين” يومًا أيُخبره هؤلاء عن كمّ الحقد والكره الذي طفا فجأة في أقضيةٍ مسيحيّة وشيعية وسنيّة ودرزية؟ لو عاد “الستّين” يومًا أيُخبره هؤلاء عن التهم المتطايرة في حقٍّ قاماتٍ خدمت الوطن طويلًا كما وفي حقّ طامحين خدموا من خارج لعبة المناصب ويحقّ لهم أن يخدموا من داخل الندوة البرلمانية؟
في الأمس، بدا ما كتبه الإعلامي الزميل جاد أبو جودة على صفحته على الفايسبوك محمودًا ليكشف جانبًا من هذا الحقد المخنوق المبحوح قسرًا والذي جاءت الانتخابات لتعيد الصوتَ إليه ولكن ليس أي صوت: صوت الكره الذي ما لاح برأسه علينا بهذه الوقاحة سوى في الحرب الأهلية. صوت الكره الذي ظننّا أنه غادر قلوبًا وإذ به يقطنها ويُمعن في التحكم بها غرائزيًا. صوت التقاتل المسيحي-المسيحي الذي ما شبع دمًا ولا إقطاعيّة ولا تهمًا ولا تعييرًا بالماضي.
في الأمس، كتب أبو جودة: “عيب على الشيخ فريد يترشح. مش هوي حارس بكركي؟ ومش بكركي للكل؟”. أيًا يكن ما أراده الإعلامي من هذه الجملة، الأكيد أنّ ما عناه لم تفُح منه رائحة النتانة التي فاحت من التعليقات المضادّة كما ومن الردود على هذه التعليقات. بشعة بدت رائحة ذاك النقاش حدّ أنها لم تنذر بلعبةٍ ديمقراطية. صودف أنّ هذه الرائحة فاحت من كسروان حيث المعركة طاحنة، ولكنّها رائحة مكبوتة في أقضية عدّة تعد بالانتشار قريبًا جدًا ما إن تُعلَن اللوائح كلُّها وتهدر قطارات التنافس الذي وإن أراده المرشحون أنفسهم شريفًا سيجعله بعضُ الجهلة لا محال، من عشاق نبش التاريخ وهواة الخطاب التعصّبي والشتم الاعتباطي، غيرَ شريف.
ما تمنّينا يومًا عودةَ “الستين” السيّئ، ولكنّ الخطّ التصاعدي الذي يسلكه الخطاب الانتخابي على جبهتَي القاعدة والمرشحين قد يدفعنا ذات صباحٍ قريب إلى عضّ أصابعنا ندمًا على يوم احتفينا فيه بانتصار الديمقراطية في بلادنا ليتبيّن لنا أنّ هذا الانتصار نسبيٌّ لأن ديمقراطيّتنا نسبيّة... لا بل استنسابيّة!