بعد 4 سنوات من تاريخ آخر زيارة رسمية لوزير خارجية أميركي إلى لبنان، غطّ ريكس تيليرسون، الوزير الحالي للخارجية الأميركية، لمدّة ستّ ساعات في بلد الأرز؛ زار خلالها رؤساء الجمهوريّة العماد ميشال عون والمجلس النيابي نبيه برّي والحكومة سعد الحريري في ظلّ إرباك تنظيمي لبناني لم يُشهَد له مثيلٌ، أكثر ما تبدّى في كيفية إدارة حال الطرقات. شهدت العاصمة بيروت وخارجها ازدحام سير خانق، مؤذٍ كبَّد المواطنين ساعات من الاحتجاز داخل سياراتهم؛ مع ما خلّفه ذلك من أضرار جمّة لهم جميعاً في مصالحهم وصحتهم وعلى مختلف الصعد انعكست حتما سلبياًعلى الناتج المحلي في هذا اليوم.
لماذا الإستهتار بحقوق الناس والتقصير في واجبات الدولة؟. ألم يكن يتوجب على الهيئات الرسمية المعنية أن تعلن في يوم سابق للزيارة ببيان رسمي يُوزّع إعلامياً؛ عن ساعات اقفال الطرقات لدواعٍ أمنية، وتنبّه المواطنين من خطر ازدحام السير؟ إن لم تكن شؤون المواطنين مهمّة لدى المسؤولين، أقلّه، كانت الدولة تفادت تأخّر وصول وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل الى قصر بعبدا للقاء نظيره الأميركي كما تقتضيه الأصول الدبلوماسية كي لا نقول البروتوكولية.
هذه الأخطاء، و إن كانت شكلية ربّما للبعض، لكنّها من صلب الحقوق الأساسية للمواطن والدولة على حدّ سواء. إضافة إلى أنّها تعكس مدى قدرة النظام القائم على إدارة شؤون البلاد في ظلّ الأزمات. وهل من أزمة سياسية أخطر من زيارة وزير الخارجية الأميركي؟.
نتوقّف عند أبرز محطّات هذه الزيارة التي تكشِفُ عن معضلات سياسية خطيرة ستواجه لبنان في المرحلة المقبلة.
أوّلاً، الرجل حضَرَ من الولايات المتّحدة إلى لبنان لينبّه الشعب اللبناني من "خطر" حزب الله وينصحه بوجوب القلق. ويؤكّد أنّ الحزب بالنسبة لأميركا منظمة إرهابية بكلّ أجنحته، وذلك بعد أن كان أعلن قبيل قدومه الى لبنان بيوم واحد من الأردن أنّ بلادَه تعترف بالحزب كشريك سياسي في لبنان.لا شكّ تمّ تنبيهه.
أسئلة عدّة تُطرَح في هذا السياق، أبرزها:
-هل الشعب اللبناني مثلاً غافل أو قاصر، بنظر الإدارة الأميركية؟ أم في الأمر تهديد؟.
-هل حزب الله مثلاً مكون مرتزقة مفروض ايرانياً؟ أم أنه مكوِّن لبناني شريك في الدولة منذ عقود؟.
-هل تعلم إلإدارة الأميركية أنّ رئيس جمهوريتنا هو نفسه رئيس أكبر تيار مسيحي قد وقّع ورقة تفاهم مع حزب الله، وتياره وأحزاب ومكونات أخرى لبنانية هي حليفة لحزب الله؟.
-هل يعلم الوزير تيليرسون أن رئيس حكومتنا الذي زاره، هو نفسه، من يرأس حكومة تضمّ وزراء لحزب الله؟.
-هل غفل عن حقيقة أن ّرئيس مجلس نوابنا يرأس برلمانا مشكلا أيضاً من نواب لحزب الله انتخبهم لبنانيون؟.
-أليس ما ذُكر وجه للديمقراطية التي قادت أميركا الحروب في المنطقة باسمها؟.
-هل المقاومة المسلّحة حقّ دولي مكرّس في القوانين الدولية أم لا؟.
-أليس من حقّ الشعب اللبناني تقرير مصيره بنفسه؟ ولكلّ مقاومة استراتيجياتها في الحروب الدفاعية والاستباقية حفاظاً على أمن بلادها القومي؟.
ثانياً، تكبَّد وزير الدولة العظمى مشقّة السفر الطويل، ليُعلِم لبنان أن بلادَه لن تتهاون مع مسألة الحدود اللبنانية والاسرائيلية على السواء.
ونسأل من باب حقّ لبنان بالدفاع عن سيادته،
-هل الحدود اللبنانية شأن داخلي لبناني أم قضية دوليّة؟.
-أتعترف الإدارة أميركية بالحدود اللبنانية البحرية المرسومة والمحددة من الدولة اللبنانية والمسلّمة نقاطها الى الأمم المتحدة منذ العام 2011أم لا؟.
-هل نسيت الإدارة الأميركية أن لبنان بحالة عداء مع اسرائيل ليعرض الوساطة من أجل توقيع اتفاقية تفاهم على اقتسام البلوك 9 النفطي؟.
-مَن يبني الجدار الفاصل ويعتدي على المنطقة الاقتصادية الخالصة ويخرق الحدود الجوية والبحرية ويحتل أراض لبنانية؟ أليست اسرائيل حليفة أميركا؟.
ثالثاً، وقف الرجل معتزّاً بالجيش اللبناني لمحاربته داعش. طبعاً إنّ القتال والانتصار في الجرود على الجماعات الإرهابية هو بذاته لحظات المفخرة والإعتزاز للجيش اللبناني قبل تصاريح التهنئة من أي جهة محلية ودولية.
وفي هذا المشهد، نسأل ما يلي:
-لماذا لا تنوّه الادارة الأميركية بقتال الجيش اللبناني "جبهة النصرة" أيضا؟.
-وفق أي معيار سياسي أو قانوني يتمّ تصنيف الجماعات بالإرهابية؟.
-هل تعلم الإدارة الأميركية أنّ المقاومة متمثلة بحزب الله قاتلت وساهمت في تحرير جرود لبنان من الإرهاب؟ فإن كانت لا تعلم، هذا شأن يستدعي القلق الأميركي، أمّا إن كانت تعلم وتتجاهل وتنكر فهذا يجب أن يقلقها أكثر، لأن السياسة الأميركية مدماكٌ يُبنى بركن كبير منه على الدور الاستخباراتي في كشف الحقائق، وفضّ المستور ضمن حقبات زمنية متفتاوتة ما يفتح باب المحاسبة.
-السؤال المركزي، بما أنّ أميركا تسعى إلى تعزيز قدرات الجيش اللبناني، هل أعرب وزير الخارجية في زيارته عن نية أميركيّة بتقديم أسلحة ثقيلة للجيش اللبناني وطائرات F16 وصواريخ استراتيجية وكل ما من شأنه تعزيز سلاح الجيش اللبناني لتقوية قدراته في حماية حدود لبنان التي تحرص عليها بلاده كما صرّح؟.
طبعاً، إن السياسة الأميركية تعلم جيدا الأجوبة على كلّ ما سبق من تساؤلات. وإنّه من البديهي القول أنّ معركتها مع لبنان ليست معركة حقوق لبنانية، لا بل حقوق وجودية اسرائيلية بحتة تتداخل مع المصالح الأميركية.
المرحلة الراهنة خلطت موازين القوى الدولية والإقليمية؛ القلق الوجودي الإسرائيلي بات أكبر بعد تهاوي حلم التفوّق العسكري الإسرائيلي. بالمقابل تتنامى قوّة محور المقاومة وتتوسّع لا سيّما بعد نتائج حروب لبنان، العراق، سوريا، اليمن والاتفاق النووي مع ايران وهذا ما تعترف به اسرائيل نفسها على لسان مسؤوليها بشكل يومي. إنّ ذلك سيدفع الجهة الأميركية-الإسرائيلية الى لعب أوراق التهويل السياسي والإقتصادي عبر قنوات عدّة. ولكن، ذلك لا يعني أننا لن نشهد بعض الأزمات الفعلية في اتجاهات متعدّدة، كان أوّلها الضغط نحو استقالة الحكومة الذي باء بالفشل وصولاً الى ما قد يشبه الحصار المالي.
إنّ الضغط الأميركي والصهيوني على لبنان في مسألة حزب الله تتدرّج من عناوين السلاح غير الشرعي الى الارهاب، التنظيم الإجرامي وصولاً إلى الوجودي باعتباره ذراعا "ايرانيا" وليس مقاومة لبنانية. هذه قضية إن لم تجد الدولة اللبنانية سبيلا لحلها دولياً عبر إثارة موضوع الحقوق اللبنانية الشرعية الدولية الى العلن ومن موقع القوّة، فنحن سندخل مرحلة استضعاف واستباحة أخطر قد تتخطى الخروقات للحدود.
أمّا قضية لبنان "دولة نفطية" فهذا يدخل بلادنا في صراع إقليمي أبعد من بلوك 9، ففي المنطقة إضافة الى الثورة النفطية التي تمّت محاولة استعمارها، مشاريع أنابيب نفطية بحرية متداخلة ومتناقضة ومتشابكة سبقتنا دول المنطقة على رسمها منها على سبيل المثال المشاريع التركية، السعودية، القطرية، الايرانية وأيضاً الإسرائيلية.
على الدولة اللبنانية ألا تغرق في قضية إثبات حدودها البحرية سواء اعترفت بها الأمم المتحدة أم لم تعترف، لا سيما أن هذه الحدود محددة ومرسومة والبلوك رقم 9 لبناني ضمن المياه الاقتصادية الخالصة. واسرائيل أقدمت على تحديد بحرها بعد لبنان بمدّة ثلاث سنوات، مستغلة ثغرات قانونية في الاتفاقية اللبنانية-القبرصية التي عقدت في العام 2007. بل يجب السير قدما نحو إصدار المراسيم التطبيقية اللازمة للبدء بانفاذ الانتفاع من هذه الثروة الطبيعية. إضافة إلى وضع استراتيجية نفطية عامّة، تشمل أيضا الثروة النفطية البرية والتشريعات الواجبة السنّ للبدء بتحصين الحقوق محليا، لا سيما أن الاتفاقيات والمعاهدات النفطية الدولية القادمة لا يمكن قانونا للدولة اللبنانية التوقيع عليها والالتزام بها فيما اذا كانت قوانينها الوضعية خالية من النصّ عليها. على الدولة اللبنانية أن تباشر بوضع خرائط ومشاريع شبكات الأنابيب النفطية البحرية التي تصل لبنان بالقارة الاوروبية للبدء بعقد الاتفاقيات الثنائية الاقليمية والدولية اللازمة في سبيل تنفيذها أو على الأقلّ دخول الحرب النفطية في المنطقة من باب الحفاظ على الأمن النفطي.
أمّا الجيش اللبناني والذي أثبت عن جدارة وتفوّق، فهو يدفع لجهة تسليحه، ثمن الصراعات السياسية الدولية. مثلاً، الهبات السعودية معلّقة الى أجل غير مسمّى، المساعدات الايرانية محظورة، الدعم الأميركي محدود دون الأسلحة النوعية. بالمقابل تدخل روسيا الاتحادية اليوم باب توقيع الاتفاقيات العسكرية مع لبنان. الحكومة اللبنانية ما زالت عاجزة عن ايجاد السبل السياسية لفرض تعزيز تسليح الجيش.
في ظلّ كلّ ما تقدّم، تيليرسون أتى الى لبنان قال كلمته ولم يمشِ؛ طالما ما زال أمام لبنان الكثير ليقوله وليفعله في المكان المناسب على الرغم من أنّ الزمن مناسب.