تهدف اي عملية إنتخابية الى تمكين المواطنين من التعبير عن إرادتهم وممارسة حريّتهم وحقّهم في إختيار ممثّليهم السياسيّين، فبالقدر الذي تُعبّر فيه الإنتخابات عن إرادة الناخبين يتحدَّد بذلك مدى عدالتها ونزاهتها.
فقناعة الناس في نزاهة العملية الإنتخابية وحيادها هو الأهمّ، فالإنتخابات النيابية هي المناسبة الوحيدة التي يطلب فيها منهم إختيار دولتهم لأنّ المجلس النيابي هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية، ويمنح الثقة للحكومة ويُسمّي رئيس مجلس الوزراء، فمن الضروري أن يشعر الشعب الذي هو صاحب السلطة بأنّ إستشارته هي صادقة وحرّة ونزيهة.
كما ان قناعة المواطنين في نزاهة العملية الإنتخابية وحيادها ضروري حتى يشعر بأنه هو مصدر السلطات وان البرلمان هو الممثل الحقيقي لتطلعاته، والا يشك ان المجلس حكرٌ على النافذين والمتمولين فيه ، حينها يشعر المواطن بان إرادته أصبحت أسيرة لدى أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، وخاصة في ظل الظروف الإقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعاني منها قسم كبير من الشعب اللبناني، ولكن ماذا لو أصبح المال أمراً حاضراً في كل المراحل السياسية اللبنانية، فمنذ الإستقلال نرى ان ترابط المال بالسياسة لا محال منه، ففي اي نظام نخسر فيه شفافية الإنفاق يصبح استعمال الأموال أمراً طبيعيا خاصة في الإنتخابات، فشراء الأصوات في لبنان أمر متعارف عليه منذ الإستقلال سواء كان الشراء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
لذلك كان لا بد من التعليق على المادة 61 من قانون الانتخابات 44/2017 و التي لم تُعدّل المادة 59 من قانون الانتخابات السابق 25/2008 وبقيت في جوهرها كما هي بل توسعت في اعمالها غير المحظورة لتشمل الاموال المقدمة من الاحزاب تحت عنوان المساعدات الاجتماعية و بذات الحجم و الكمية والتي تقدم بصورة اعتيادية. حيث نصّت المادة 59 القديمة على أن: "تُعتبر محظورة أثناء فترة الحملة الإنتخابية الإلتزامات والنفقات التي تتضمّن تقديم خدمات أو دفع مبالغ للناخبين ومنها على سبيل البيان لا الحصر التقديمات والمساعدات العينيّة والنقديّة الى الأفراد والجمعيات الخيرية والإجتماعية والثقافية أوالعائلية أو الدينية أو سواها، أو النوادي الرياضية وجميع المؤسسات غير الرسمية.
-لا تعتبر محظورة التقديمات والمساعدات المذكورة أعلاه إذا كانت مقدّمة من مرشّحين أو مؤسسات يملكها أو يُديرها مرشّحون درجوا على تقديمها بصورة إعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات قبل بدء فترة الحملة الإنتخابية".
أما المادة 61 من القانون الجديد فهي على الشكل التالي: "تُعتبر محظورة أثناء فترة الحملة الإنتخابية الإلتزامات والنفقات التي تتضمّن تقديم خدمات أو دفع مبالغ للناخبين ومنها على سبيل البيان لا الحصر التقديمات والمساعدات العينيّة والنقديّة الى الأفراد والجمعيات الخيرية والإجتماعية والثقافية أوالعائلية أو الدينية أو سواها، أو النوادي الرياضية وجميع المؤسسات الرسمية (حذف كلمة غير من عبارة المؤسسات غير الرسمية، لتصبح المؤسسات الرسمية وقد يكون ذلك خطأ تقني).
أما التعديل غير الجوهري و الصوري فهو بالتالي:
-لا تعتبر محظورة التقديمات والمساعدات المذكورة أعلاه إذا كانت مقدّمة من مرشّحين أو مؤسسات يملكها أو يُديرها مرشّحون (أو أحزاب) درجوا على تقديمها (بذات الحجم و الكمية) بصورة إعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات قبل بدء فترة الحملة الإنتخابية (وفي هذه الحالة لا تعتبر المدفوعات والمساعدات المقدمة أثناء الحملة الانتخابية خاضعة للسقف الانتخابي المنصوص عليه في المادة 61 أعلاه)". وتعليقا على المادة 61: ومن المآخذ عليها أنها سمحت بتقديم مساعدات من مرشحين أو مؤسسات أو أحزاب درجت على تقديمها بصورة إعتيادية ومنتظمة. فهذه التقديمات تعتبر مثل الرشاوى التي تقدَّم وتزداد بعنوان المساعدات، مما يصعب حينها التفريق فيما إذا كانت تُعتبر رشاوى يُعاقب عليها، أو مساعدات مسموحة بها قانوناً.
ان الرشوة عن طريق إسداء الخدمات من قبل المرشّح أو الكتلة التي ينتمي إليها أو الحزب أو اللائحة، فهي متعدِّدة الوجوه خاصةً في بلدان المحسوبيات وفساد الإدارة وضعف النفوس وغياب المحاسبة، ويصعب إثباتها وأغلبها يدخل في باب المساعدات والتقديمات المسوّغة بحسب منطوق المادة 61 من قانون الإنتخاب. ما يعني قصور النص القانوني في تغطية كامل وجوه استخدام المال السياسي يبقى على الرغم من الإصلاحات التي شملها قانون الإنتخاب 44/2017 فيما يتعلّق بتنظيم الإنفاق الإنتخابي وتشريع مشاركة المجتمع المدني في مراقبة ومواكبة الإنتخابات النيابية، يبقى هناك ثغرات في نقاط عديدة منها:
ان هذا القانون "يتضمّن نصاً يُقيّد فيه الإنفاق المستجدّ الذي تقوم به الأطراف السياسية أو الأطراف الداخلة حديثاً، ويشرّعه بالنسبة لمن درج على إستخدامه منذ أكثر من 3 سنوات. فالمادة (61) التي تحظر في فقرتها الأولى الإلتزامات والنفقات وتقديم الخدمات و دفع المبالغ للناخبين أثناء الحملة الإنتخابية إلا أنها تنصّ في الفقرة الثانية على ما يلي : "لا تُعتبر محظورة التقديمات والمساعدات المذكورة أعلاه إذا كانت مقدّمة من قبل مرشّحين أو مؤسسات يملكها أو يُديرها مرشّحون او احزاب درجوا على تقديمها بصورة إعتياديّة ومنتظمة منذ ما لا يقلّ عن 3 سنوات قبل بدء الحملة الإنتخابية"...
إنّ الفقرة الثانية من شأنها أن تعزِّز وجود التيارات الكبرى والأثرياء في الحياة السياسية حيث بإمكانهم التحكّم في خيارات المستفيدين من تقديماتهم، فهم القادرون على دفع المبالغ المباشرة، ورواتب التفرُّغ لدى التيارات الكبرى، وتقديم الخدمات الى المؤيّدين والموالين وتجاهل من هم ليسوا بموالين لهم. هذه العوامل مجتمعة من شأنها أن تقيِّد خيار الناخب، مما يعني المساس بديمقراطية الإنتخابات.
ان الذي ساعد المتمولين بفرضهم لهذا الواقع هو عدم قدرة الدولة عن القيام بواجبها في الرعاية الإجتماعية والصحية، وترك هذه الرعاية للجمعيات والهيئات التابعة لأحزاب وتيارات وشخصيات سياسية ما أدى الى تعزيز التبعية السياسية و شكل رشوة مقنعة بتقديم المساعدات للمحتاجين.
فعلى سبيل المثال يشهد نظام الرعاية الإجتماعية و الصحية و التعليمية في لبنان حالة من التفكك التي نشأت بشكل أساسي عن الحرب الأهلية التي أضعفت القدرات المؤسساتية والمالية للقطاع العام وتدنت نوعية الخدمات التي يقدمها هذا القطاع على مدى السنين مما دفع بالجمعيات والأحزاب إلى سد هذه الثغرة.
ولكن كيف تمكنت الأحزاب والجمعيات من إقامة مؤسسات صحية وإجتماعية ومدارس وجامعات؟
إن ذلك كان بفعل الدعم المالي الخارجي لهذه الأحزاب. فبدلاً من أن يكون دور الدولة و سلطتها هو السائد الوحيد في مختلف مجالات الحياة و المجتمع و الضامن لوحدة اللبنانيين فقد سمح غياب الرقابة على تمويل الأحزاب بتزايد دورها على حساب الدولة في التربية والإعلام و الصحة و التعليم و الخدمات الإجتماعية بأنواعها مما جعل من اللبنانيين رعايا للأحزاب و ليس للوطن , مما جعلهم مجموعة أقليات حزبية أكثر مما جعلهم شعباً و مجتمعاً واحداً.
إن الإنتماء الى الحزب الذي يرعى مناصريه و يقدم لهم الخدمات و يحاول أن يتمايز عن غيره من القوى السياسية وتقديم أفضل ما لديه في ظل تقصير الدولة في مجال الخدمات جعل من المواطن مرتهناً وتابعاً للجهة الحزبية والسياسية التي ترعاه، وهذه الخدمات عادة ما تزداد في فترات الإنتخابات وتشكل دافعاً معنوياً للمستفيدين منها مما يدفعهم للتصويت الى تلك الجهة المقدمة لهذه الخدمات.
وبالتالي تظهر هذه الخدمات وكأنها رشاوى مقنعة تقدم للناخب ولكن تحت عناوين مختلفة كمنح تعليمية أو مساعدة مرضية أو تقديم حصص تموينية .
إذاً إهمال الحكومات لشعبها جعل من أصحاب الأموال الضخمة والمرشحين للإنتخابات والأحزاب السياسية التي تتلقى الدعم المالي بشكل كبير من الخارج، أن تلعب دور الحاضن لمحازبيها فتُقدم الخدمات التي تعجز الدولة عن تقديمها.
ولكن ماذا لو كانت الدولة اللبنانية تقوم بتقديم كافة الحقوق الإجتماعية للمواطن من تعليم مجاني وتأمين فرص العمل والرعاية الصحية وضمان الشيخوخة... حينها لا يبقى هناك مجال أمام أي متمول مرشح للإنتخابات سواء كان مرشح فردي أو حزب معين أن يجعل من حاجة الناس لمثل هذه الخدمات وتقديمها مطيّة تؤمن لهم الوصول إلى السلطة، هكذا يضطر كل مرشح أن يضع برنامجه الإنتخابي على تعزيز الإنتماء الوطني لا الحزبي ووضع الخطط والبرامج التنموية التي تجعل من لبنان وطناً حاضناً لكل ابنائه وتضعه على سكة الدول المتقدمة.