أكد البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، في كلمة له في المؤتمر الدولي الثاني لمركز الملك عبدالله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، أن "الإيمان المسيحي يشدد على أنّ العنف باسم الله، أو باسم الدّين، انحراف عقائدي حقيقي، مناف لتعليم الإنجيل، فالرب يسوع المسيح ترك لنا مثالًا في آلامه وموته لفداء الجنس البشري، فهو، على ما كتب بطرس الرّسول، كان يُشتَم ولا يردّ الشّتم، ويتألّم ولا يهدّد، بل يسلّم نفسه لله الذي يحكم بالعدل"، لافتاً الى انه "لقد قاسى شخصيًّا العنف البشري لكي ينتصر عليه، وبادل العنف بغفران حبّه الفادي، وهكذا دمّر العنف الدّيني من جذوره بقوّة المحبّة. من هذا المنطلق، ليس من مبرِّر للعنف، لا من أجل الإنتقام لحقوق الله، ولا لإنقاذ البشر رغمًا عنهم، لأنّ الحقيقة لا تفرض نفسها إلّا بقوّة الحقيقة ذاتها التي تنساب إلى العقل بفاعلية ولطف".
وتابع بالقول أنه "بذلك أعطى السيد المسيح أمثولة مثلّثة، أن يتبع المسيحيّون خطى سيّدهم بنشر ثقافة الغفران والسلام بوجه العنف، أن يدركوا أنّ طريق القيامة بالمسيح يمرّ عبر الغفران المُعاش بإيمان شجاع وصامد، لا بالخنوع والضعف، أن يلتزموا برسالة المصالحة التي سلّمها السيّد المسيح للكنيسة، كي تساعد المؤمنين على تحقيق الاتّحاد بالله، وتوطيد الوحدة فيما بينهم، فلقد مرّت المسيحيّة بأوقات عديدة من عدم التّماسك وعدم الإخلاص لهذا التّعليم الإنجيلي وللرسالة، بسبب استغلال الدين المسيحي لأغراض غريبة عنه، فكان يُساء استخدامه في العنف السّياسي، هذا كان يحصل عندما كانت المسيحيّة دينًا ودولة غير منفصلَين، ولكنها عندما فصلت الدين عن الدّولة، عملًا بقول السيّد المسيح"أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، توقّف ارتكاب العنف باسم الدين المسيحي"، منوهاً الى انه "رُبَّ معترض يقول أنّ العلاقة بين الله والعنف نجدها واضحة تمامًا في الكتاب المقدّس بعهده القديم، الذي تعترف به المسيحيّة ولا تفصله عن العهد الجديد".
وشدد على أنه "صحيح هذا الإعتراض، فالرّباط بين العهدَين رباط عضوي، بحيث أنّ العهد القديم ينكشف في العهد الجديد، والعهد الجديد مختبئ في القديم"، ولكن يجب تفسير هذه الصفحات المظلمة في تاريخ الخلاص، التي نجدها في نصوص العهد القديم، نقرأ في مطلع الرسالة إلى العبرانيّين كلّم الله آباءنا من قديم الزّمان بلسان الأنبياء مرّاتٍ كثيرة، وبأنواعٍ شتّى لكنّه في هذه الأيّام الأخيرة كلّمنا بابنه الذي جعله وارثًا لكلّ شيء، وبه خلق العالم هو بهاء مجد الله وصورة جوهره وضابط الكلّ بقوّة كلمته"، موضحاً أن "هذا يعني أنّ الإستماع إلى كلام الله، في تاريخ الشعب القديم، السابق للمسيح، تطلَّب تنشئة بطيئة. هذا الشعب عاش في بيئات لوّثت التديّن بآثار صراعات الديانات المجاورة، فكان لا بدّ من خلال كلام الأنبياء أن يسير الشّعب في عمليّة نضج بطيئة، حتى وصل النضج إلى جديده الكامل بشخص يسوع المسيح وبالثقافة المسيحانية التي أطلقها، وسلّمها لكنيسته كي تنشرها بين الشعوب، لم تقبل المسيحيّة يومًا برفض أسفار العهد القديم المقدّسة، ولم تعتبر أبدًا أنّ "إله" ذلك الوحي القديم مناقضٌ لوحي يسوع المسيح. فلا يمكن أن يتأسّس الجديد المسيحي على إنكار ما سبق".
كما شدد الراعي على "اننا في زمن يُمارَس فيه العنف باسم الله والدّين، بينما الله والدّين يحرّمانه، لأنّه يشوّه وجهَيهما ولكن سادت الفكرة المسبقة، التي تنتشر "كثقافة" لعالم اليوم، وهي أنّ الديانات التوحيديّة تشكّل بطبيعتها عامل انقسام بين البشر، فكانت المناداة بحلّ وحيد قادر على وضع حدّ للعنف، وعلى ضمان السلام، هو علمنة المجتمع، فاعتبروا أنه يوجد في الديانات التوحيديّة إله واحد هو بطبيعته غيور، لا يقبل بأيّ إله آخر إلى جانبه، في حين أنّ الآلهة الوثنيّة، بحكم طبيعتها، متسامحة، وتقبل بالتنوّع، فكان الاقتراح البديل عن الديانات التوحيدية تعدّد الآلهة كدين أكثر ملاءمة للتعدّدية والتسامح اللَّذين هما من سمات المجتمع المدني".
وتتابع بالقول أن "التاريخ يذكّرنا بالعنف الذي مارسته المملكة الهلّينية السلوفية الوثنية على المكابيين، وبالاضطهاد العنيف الذي مارسته الأمبراطورية الرومانية الوثنية على المسيحيين طيلة القرون الثلاثة الأول من تاريخ المسيحيّة. وما القول اليوم عن الوثنية الجديدة التي تؤلّه الفرد والأنظمة، وفي هذا الزمن أيضًا، ينتشر العنف السياسي الذي تحرّكه العلمنة والإلحاد والمطامع السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية. وهو عنف ظاهر في افتعال الحروب، ووأد نارها، وتوزيع أسلحتها، واستخدام منظّمات إرهابيّة ومرتزقة، كما شهدنا ومازلنا في الحروب التي دمّرت بلدانًا من بلداننا الشَّرق أوسطيّة".
ولفت الى "انها الفرصة المناسبة للجميع، المعروفة بلفظة Kairos، وهي فرصة حقيقية للروح الذي يعطي الرّجاء للشعوب، ويفتح أمامهم مستقبلًا أفضل، هذا المستقبل يبنيه الإيمان المسيحي على حقائقه الثلاث الأساسية وحدانية الله وثالوثيته الآب والابن والروح القدس؛ تجسّد الابن يسوع المسيح وآلامه وموته لفداء البشر وتبريرهم وحلول الروح القدس الذي يقود إلى معرفة الحقيقة كلّها، في ضوء هذه الفرصة طوت الكنيسة صفحة العنف الديني، وزرعت في حقل العالم بذرة قادرة على إنتاج ثمار نبذ العنف باسم الله أو الدين، في عصرنا الذي ينشر الكراهية والعرقية السياسية وفوبيا الإسلام".
أما عن فرصة الروح، فنوه الراعي الى أنها "هي أيضًا للدين الإسلامي الذي شوّهت صورته وجوهره المنظمات الإرهابية ببمارستها العنف وزرع الرعب باسم الله وباسم الإسلام، أدرك المسلمون فرصة الروح هذه بالنسبة إليهم، فأعلنوا أنّ الإسلام براء من الذين يمارسون العنف والإرهاب باسم الله والدين الإسلامي،"، معتبراً انه "اليوم ، إذ يعتزم هذا المؤتمر الدّولي الذي يجمعنا إصدار المنصّة الإقليميّة للحوار والتّعاون بين القيادات والمؤسّسات الدينيّة في العالم العربي، نرانا مجدّدًا أمام "فرصة الروح، ففي طليعة حيثيّات الوثيقة التّأسيسيّة الوعي بأنّ الأحداث المؤلمة التي يمرّ بها العالم العربي منذ عقدَين أدّت إلى تهديد حقيقي لتنوّع النسيج الإجتماعي، بالإضافة إلى كونها تشكّل خطرًا حقيقيًّا للتعايش السّلمي والتماسك بين المكوّنات الدينيّة في المنطقة، ثمّ العزم بمشيئة الله أن نبذل ما بوسعنا لتجنيب شعوب المنطقة ويلات الحرب والتّطرّف والعنف، خاصّة باسم الدين، وغرس قيم الحوار والتّعايش السّلمي والمواطنة المشتركة".
وتمنى "النجاح الكامل لهذا المؤتمر، ولثماره الظاهرة في المنصّة الإقليمية للحوار التي ستُقرّر فيه، نشكر الله على فرصة الروح هذه"، آملين أن "يوضع حدٌّ نهائي للعنف باسم الله والدين، حفاظًا على قدسيّة الله الفائقة، وعلى كرامة الأديان وقدسية تعاليمها".