حسناً فعلت قيادة حزب الله بترشيح اللواء جميل السيد للإنتخابات النيابية المقبلة، وكفّت المؤمنين شر الإختيار. ويمكن اعتبار هذه الخطوة الجريئة والمتقدمة أول إرهاصات مغادرة الحزب لسياسة الممالأة والهروب من المواجهة في الملفات الداخلية، حيث تحول الصراع بين المحور السوري والمحور السعودي إلى "قاتل أو مقتول"، ولا مجال لأنصاف الحلول.
دأب حزب الله منذ اغتيال رفيق الحريري 2005 على الابتعاد عن كل ما يمكن ان يثير الفتنة مع الشارع السنّي، وتحمل العديد من الإستفزازات الأمنية والسياسيّة الهادفة الى جرّه لإستعمال قوّته في الداخل. كذلك الحملات الإعلامية الهادفة الى تشويه صورته. وحتى عندما اضطر مرغما لاستعمال سلاحه في الداخل في 7 ايار، فعلها بأقل الأضرار الممكنة، ولم يستثمر انتصاره السريع والساحق سياسياً، وسمح لأعدائه وخصومه الداخليين بالحفاظ على مواقعهم والإستمرار "بالتنكيد" عليه في كل خطوة يخطوها، وكل كلمة يتلفظ بها.
سياسة النأي بالنفس عن الفتنة، سمحت للحزب بتجاوز قطوعات عديدة كأحداث بيروت وطرابلس وعرسال وقطع الطرقات وغيرها، ولكنها لم تتمكن من زحزحة الفريق الآخر عن الإستمرار في نهجه العدائي، الذي وللمصادفة يتقاطع مع نهج اميركا واسرائيل وحلفائهما العرب.
يتحمل حزب الله إضافة الى حركة أمل مسؤولية معنوية كبيرة تقارب الإشتراك بالجرم. عن واقعة توقيف جميل السيد ظلماً وعدوانا لأربع سنوات بتهمة الإشتراك بتدبير إغتيال رفيق الحريري. إذ كيف سمحت الطائفة الشيعية المسلحة حتى الأسنان. بالنيل من المركز الشيعي الأمني الأول في الدولة دون أيّ دليل جرمي، بل كيف سمحت بتمرير قوانين تسلط المحكمة الدولية على البلد وتستبيحه امنيا تحت وطأة الإغتيالات الفرعية التي كانت تحدث غب الطلب.
لقد أدرك الحزب متأخراً الحكمة القائلة "اذا اكرمت اللئيم تمرّد". وتأخر كثيرا حتى بدأ التصدّي للتزوير والبلطجة... ورفع الغطاء عن المحكمة الدولية وأوقف اي تعاون معها، بعد حادثة طردها من العيادة النسائية في الضاحية ومصادرة بعض الوثائق من عناصرها. ووجد نفسه ملزما بحماية اللواء جميل السيد حين أصدر القضاء مذكرة جلب بحقه بحجة تهديده له، فرفعه الى مصاف سلاح المقاومة وألقى عليه نفس الغطاء" اليد التي ستمتد الى جميل السيد سنقطعها من الكتف". وذهب ذاك الرتل من سيارات المواكبة برفقة بعض نواب الحزب، مدعما ببضعة آلاف من جحافل جماهير الضاحية لإستقبال اللواء في المطار وإيصاله الى مأمنه، ليقول أن اللعب انتهى وأتى وقت الجد، وأن الميدان والشارع هو ما يحكم لبنان لا مراكز الضغط الدولية.
إن لبنان بحكومته وشعبه وأجهزته الأمنية مدين بالإعتذار والتعويض على اللواء السيد، فترة التوقيف الظالمة غير القانونية التي امتدت 4 سنوات. فما حصل مع الضباط الأربعة عصيّ على الفهم والإستيعاب. فلنتصور أن يحدث لا قدر الله اغتيال رئيس حكومة لبنان اليوم، فهل يمكن أن نتقبل تلقائيا سجن رؤساء الأجهزة الأمنية، ومنهم اللواء عباس ابراهيم مثلاً؟.
يحاول الطرف المعادي للمحور السوري الإيحاء بأن جميل السيد كان عميلا للنظام السوري، وأنه كان يحكم ويتحكم بلبنان مع رستم غزالة. متناسين الحقيقة الساطعة بأن اللواء السيد كان مديرا للأمن العام اللبناني، تماماً كما هو حال اللواء عباس ابراهيم اليوم، ومهمة الأمن العام هي الحفاظ على الأمن العام للدولة. وكما يقوم اللواء ابراهيم بتكليفه المناط به وظيفيا في التواصل مع كافة الأطراف السياسية للحفاظ على الأمن العام للبلد، فتجده وسيطاً بين رؤساء الجمهورية والتواب والحكومة حين يختلفون، أو مراضيا لخواطر الزعماء "الزعلانين". أو وسيطاً في التنسيق مع الدولة السورية حين لا تريد الحكومة "النائية بنفسها" القيام بذلك. كذلك من مهام مدير عام الأمن العام (بغض النظر عن هويته) التنسيق مع أجهزة الأمن الأجنبية والتعاون معها في ما يخدم مصلحة الطرفين.
إذاً هو ينفذ سياسات أقرتها الدولة اللبنانية، وهو موظف ومسؤول عن أداء واجباته. ولطالما وقف اللواء السيد مخاطباً أخصامه ومتحدياً إياهم قائلاً" انتم اليوم في السلطة، والقضاء بيدكم، أتحداكم أن تأتوا بمخالفة وظيفية واحدة إرتكبتها أثناء فترة ما تسمونه النظام الأمني اللبناني السوري" ولكن دون جواب أو رد من أحد. وليس ذنب اللواء السيد انه كان موجوداً في مرحلة حكم حليف أو تابع للنظام السوري، فعلى من يريد تجريم المسؤولين عن تلك الفترة أن يبدأ بالترويكا السياسية الحاكمة وقتها لأنها هي المسؤولة عن السياسات العامة وليس جهاز الأمن العام.
يأتي ترشيح اللواء السيد رداً مناسباً على إستكبار تيار المستقبل، الذي لا يتوانى عن إختيار أشرس الشخصيات وأكثرها استفزازاً للطرف الآخر لشغل مقاعد نيابية أو وزارية. والعجيب أن هذا التيار وحلفاءه ما زال يتعامل مع اللواء السيد على أنه مرتكب عملية الإغتيال.
لم يعد للكلام والخطابات كثير معنى وأهمية. نحن اليوم في مرحلة إنتصار الرئيس السوري بشار الأسد، وإنهيار المعسكر المعادي وتشتته، فبعد أن تحالف السعودي والقطري والتركي والإسرائيلي لإسقاط النظام، أصبح لكل منهم هدف وشأن يلهيه. ومع الإنتصار المرتقب لا يبدو أن هناك ما سيمنع تصفية الحسابات في لبنان وحسم التموضع الاستراتيجي للبلد. وليس هناك أمضى من ذاكرة اللواء السيد لتولي هذه المهمة.