بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على تلقّيه دعوة لزيارة المملكة العربية السعودية، سلّمه إياها الموفد السعودي إلى بيروت نزار العلولا، في سياق ما يمكن وصفه بـ"التطبيع" بين الجانبين، حطّ رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض، في زيارةٍ تشير كلّ المعطيات إلى أنّ الاستحقاق الانتخابيّ سيشكّل "طبقها الدسم"، في ضوء ما يُحكى عن مساعٍ تبذلها السعودية لإعادة رصّ صفوف حلفائها، ولو بالتي هي أحسن.
وإذا كانت زيارة الحريري أعادت ذاكرة اللبنانيين إلى زيارته الشهيرة للسعوديّة في تشرين الثاني الماضي، بموجب "استدعاءٍ" لم تُكشَف ملابساته حتى اليوم، وهي الزيارة التي غيّرت الكثير من المعادلات الداخليّة، ولا تزال تداعياتها ماثلة في الأذهان، فإنّ علامات استفهامٍ بالجملة تُطرَح عمّا إذا كانت زيارة الحريري المستجدّة ستقلب بدورها كلّ المعطيات، بأبعادها الانتخابيّة هذه المرّة، فتطيح بتحالفاتٍ لتستنهض أخرى كما يتكهّن البعض؟!.
صفحة جديدة؟
لا شكّ أنّ الظروف التي حكمت زيارة الحريري الشهيرة إلى السعودية قبل أشهر، والتي نُسِجت حولها الكثير من الأقاويل، تختلف كليًا عن تلك التي تحكم زيارته اليوم، تمامًا كما اختلفت الاستراتيجية السعودية بالتعامل مع لبنان، وهو ما يؤكده الشكل قبل المضمون، وربما دونه. ففي الشكل أولاً، هناك مفارقة جديرة بالانتباه أنّ زيارة رئيس الحكومة اليوم تأتي بموجب "دعوة" تلقاها عبر القنوات الرسميّة، وإن اتخذت صفة "العجلة"، في حين أنّ زيارة تشرين الثاني الفائت حصلت بموجب "استدعاء"، ما اضطر الرجل لإلغاء كلّ مواعيده والسفر فورًا، في ما كان يصفها مكتبه الإعلامية بأنّها "زيارة عمل".
وفي الشكل أيضًا، تبرز زيارة الموفد السعودي نزار العلولا إلى بيروت، والتي مهّدت لزيارة الحريري إلى الرياض، وهي التي بدت أيضًا مختلفة عمّا كان سائدًا في مرحلة الموفد السابق ثامر السبهان، خصوصًا أنّها مرّت من خلال القنوات الرسميّة، حيث أنّ الرجل التقى رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي ميشال عون ونبيه بري إضافة إلى الحريري وغيره. وإذا كان صحيحًا أنّ لقاء العلولا مع عون كان أقصر اجتماعات الرجل، وهو الذي لم يتعدّ الدقائق العشر، في مقابل ساعاتٍ أمضاها مع غيره ممّن يصلح وصفهم بـ"أصدقاء السعودية في لبنان"، فإنّ مجرّد حصول اللقاء له دلالاته بالنسبة لمقاربة السعودية للوضع اللبناني، خصوصًا أنّ من أبرز النقاط التي تُسجَّل على السبهان كانت تجاوزه لمثل هذه الأمور "البروتوكولية"، ما كان يدفع البعض لاتهامه بالتصرف وكأنّه "مفوضٌ سامٍ" أو ما شابه.
وفي وقتٍ يرى البعض أنّ زيارة الحريري إلى السعودية اليوم، وبالظروف الحاليّة، يمكن أن تشكّل "ردّ اعتبار" للرجل بعد كلّ ما تعرّض له من الأقربين والأبعدين، يمكن الحديث، بعد كلّ الأخذ والردّ الذي طبع العلاقة بين الحريري والسعودية في الآونة الأخيرة، عن قناعة مشتركة باتت راسخة لدى الجانبين تقوم على أنّ كلاً منهما بحاجة للآخر، خصوصًا في الموسم الانتخابيّ، ما يحتّم طيّ صفحة وفتح أخرى. فتمامًا كما أنّ السعودية بحاجة للعودة إلى الساحة اللبنانية، وإعادة الحريري إلى كنفها ورعايتها، أصبح واضحًا أيضًا أنّ الحريري يحتاج للاحتضان السعودي، خصوصًا بعدما أعلن صراحةً أنّه يفتقد للمال الانتخابيّ، وهو قد يكون عاجزًا عن خوض المعركة الانتخابيّة من دونه، بعدما شكّل "عصب" حملته الانتخابيّة في السابق، وخصوصًا في العام 2009.
جعجع يرث الحريري...
إذا كان كثيرون ينتظرون عودة الحريري من السعودية ليبنوا على الشيء مقتضاه، على صعيد التحالفات الانتخابيّة، فإنّ الرهان على "انقلابٍ" في التحالفات يبقى مستبعَدًا، رغم كلّ ما يُحكى عن أنّ الحراك السعوديّ كما الغربيّ يأتي في محاولةٍ لمنع السيناريو الذي يكثر التداول به والذي يقوم على فوز "حزب الله" وحلفائه بالأغلبيّة في المجلس النيابي المقبل، ما سيجعله قادرًا على التحكّم بكلّ قراراته، رغم التطمينات التي قدّمها الحزب الذي كان واضحًا بتأكيده أنّ أحدًا لن يستطيع السيطرة على البرلمان بموجب القانون الانتخابي الجديد.
ولعلّ ما يعزّز نظرية "الاستبعاد" هذه، رغم المحاولات الواضحة للسعودية، وبدفعٍ من بعض "أصدقائها"، لاعادة إحياء مشروع الرابع عشر من آذار، والتقريب فيما بين مكوناته، هو أنّ الحريري بات مقتنعًا بعدم جدوى العودة إلى الاصطفافات السابقة، وهو سيحاول إقناع السعودية بوجهة نظره، القائمة على خوض الانتخابات بمفرده، مع ترك الباب مفتوحًا للتحالف مع "التيار الوطني الحر" فقط "عند الضرورة"، وهو ما اتفق عليه ضمنيًا مع "التيار" مع إسقاط فرضية التحامل الشامل والكامل بين الجانبين. وفي هذا السياق، هناك من يرى بأنّ الحريري يدعّم وجهة نظره بالقول بأنّ تقاربه مع "التيار" يساهم في التباعد بين الأخير و"حزب الله"، خصوصًا بعدما رفع "الفيتو" بكلّ صراحة بوجه التحالف مع "حزب الله"، وهو ما تمظهر بشكلٍ واضح من خلال "الحملات" المتبادلة بين الجانبين في الفترة الأخيرة.
وبانتظار انتهاء زيارة الحريري للسعودية وفي ظلّ الترقّب الحاصل لنتائجها، لمعرفة من سيقنع الآخر بوجهة نظره، فإنّ قراءة جولة الموفد السعودي نزار العلولا إلى بيروت تكرّس مقولة أنّ جعجع بات بمثابة "رجل السعودية الأول" في لبنان، وهي رسالة يعتبر كثيرون أنّها موجّهة للحريري قبل غيره، بمعنى أنّه في حال لم يؤمّن مصالح السعودية، فإنّ "الحكيم" قادر على فعل ذلك، مع ملاحظة أنّ جعجع كان الوحيد بين المسؤولين الذين التقاهم العلولا، الذي كشف أنّ البحث تطرّق إلى الاستحقاق الانتخابيّ المرتقب. ولعلّ "الحفاوة" الفائقة التي لقيها الضيف السعودي في معراب تحمل من الدلالات على هذا الصعيد ما يكفي، تمامًا كإشارة جعجع بعد اللقاء إلى المساعي للتفاهم مع "المستقبل"، علمًا أنّ كلّ الاتصالات لم تفض حتى الساعة لحصول أي اجتماع بين جعجع والحريري، منذ أزمة استقالة الأخير.
أيّ حريري سيعود؟!
إنّها الانتخابات إذاً، تعيد تقريب من فرّقتهم الأيام والأشهر الماضية، تمامًا كما تفرّق الأحباب والأصدقاء. ولدواعي الانتخابات أيضًا وأيضًا، تُفتَح اليوم صفحة جديدة بين السعودية ورئيس الحكومة، صفحة تبدو احتمالات نجاحها موازية لاحتمالات فشلها، تمامًا كما تبدو "مشروطة" سلفاً من الجانبين على حدّ سواء.
وإذا كان السؤال عمّن سيقنع الآخر في نهاية المطاف واقعيًا، فإنّ سؤالاً أكبر يُطرَح اليوم، وهو، أيّ حريري هو ذلك الذي سيعود من السعودية؟ هل يعود كما ذهب، أم نكون على موعدٍ مع "انقلابٍ" جديد يطيح بكلّ التحالفات، ولو في ربع الساعة الأخير؟!.