من يعتقد أن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية الاتحادية الروسية هو عرض للقوة العسكرية الروسية فهو وأهم أو أنه لم يستطع إدراك صورة العالم المتغير أو أنه عاجز عن مواكبة المتغيرات الحاصلة في النظام العالمي الجديد التي فرضتها أحداث العالم والمنطقة.
ومن يعتقد قوة روسيا بوتين تختصر بالآلة العسكرية فقط فهو بالتأكيد لم يستوعب أن روسيا سبق لها إثبات قدراتها من خلال عدة محطات تصادمية مثل جورجيا وأوكرانيا وصولا إلى الحربِ السورية الدائرة، والتي تكاد تكون نواةَ حرب عالمية ثالثة بالطريقة التقليدية، حيث تجاوزت درجة الحرارة فيها درجة الحرب الباردة.
أما القائل إن خطاب بوتين هادف إلى الدعاية الانتخابية الرئاسية المرتقبة في هذا الشهر فإن تمنيات أخصام بوتين في الداخل والخارج باستعادة روسيا زمن الاتحاد السوفييتي كفيل بدحض الادعاءات الانتخابية لان فلاديمير بوتين أضحى رمزاً لإستراتيجية روسيا الجديدة القوية.
إن مضمون خطاب بوتين الجديد يحمل صفة المواجهة، خطاب الواثق من مستقبل روسيا والداعي إلى ضرورة تنظيم العلاقات السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية على أسس عادلة حتى بين روسيا والقوى المناهضة لها أو بين روسيا والحلفاء والعالم وذلك في لحظة مفصلية تاريخية تصر فيها أميركا على التمسك بنظام القطب الواحد من خلال اتباع لغة القوة والحرب والخراب والفوضى وتغيير أنظمة وخرائط واحتلال الأوطان وتقسيمها ونهب ثرواتها.
ومع كل ما تضمنه الخطاب من عرض يوثق براعة العقلية العسكرية الروسية وتطورها مترافقة مع توصيف دقيق لحالة القوة والجهوزية الدفاعية الردعية الروسية إلا أن فلاديمير بوتين ترك الباب مفتوحاً عندما وجه الدعوة للشراكة مع الغربيين في أمور أهمها الثروات والطاقة، حيث قال
إنه بالرغم من اختلاف مواقفنا مع الولايات المتحدة والأوروبيين نبقى شركاء على كل حال، لأن علينا أن نرد على التحديات الأصعب معا وتوفير الأمن العام وبناء عالم المستقبل الذي يزداد ترابطا أكثر فأكثر مشيرا إلى نية روسيا بالتعاون وأنها لم تكن يوما عدائية أو مبيتة ضد أحد، ولكنها عقدت النية على التصدي لكل من تسول له نفسه تجاوز الخطوط الحمر وخصوصاً الخطوط النووية منها.
وبالوقوف على خلفية الإعلان عن العقيدة النووية الروسية الجديدة علينا العودة لما ورد في وثيقة العقيدة النووية الأميركية لهذا العام التي أعلن عنها بتاريخ الثاني من شباط الفائت. حيث تضمنت السعي لتحديث الثالوث النووي للولايات المتحدة، الذي يتضمن الطيران الإستراتيجي العابر للقارات والغواصات الحاملة للرؤوس النووية. إضافة لذلك خطة البنتاغون لتفعيل قوة الصواريخ المزودة برؤوس نووية جديدة عابرة للقارات مع زيادة مداها العابر للقارات حيث إن بعض الخبراء وصف هذه العقيدة النووية الأمريكية الجديدة بإستراتيجية حرب نووية محدودة، أما الرئيس بوتين فوصف هذه العقيدة النووية الأميركية الجديدة بالمقلقة ويجب مواجهتها مضيفاً إن منظمة حلف شمال الأطلسي تبني دفاعات على الحدود الروسية ولكنّ الصناعات الروسية ستجعل من تلك الدفاعات الأميركية غير فعالة.
الجدير ذكره هو أن الولايات المتحدة كانت ولم تزل تقف حجر عثرة في طريق التوصّل إلى اتفاق عالمي شامل لمنع انتشار الأسلحة النووية، فقد دعت روسيا مراراً وآخرها دعوة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف جميع بلدان العالم للانضمام لعملية نزع السلاح النووي. دعوة لافروف جاءت في كلمة ألقاها لافروف نفسه في مؤتمر جنيف الخاص بنزع الأسلحة في 28 شباط 2018 حيث عبّر لافروف عن قلق موسكو من المواقف الأمريكية الجديدة ومن إستراتيجيتها النووية وخاصة خطط نشر صواريخ ذات القدرة التدميرية التي تحاول أميركا من خلالها تطويق روسيا من كلّ مكان فالرئيس الروسي بوتين عبر صراحة عن عدم ارتياحه لما تقترفه أميركا حين قال إنّ الولايات المتحدة رفضت كل المقترحات الروسية لتسوية قضية منظومة الدرع الصاروخية التي تطوق روسيا.
الأمر اللافت في خطاب بوتين هو تأكيده الجهوزية الروسية للرد السريع على أي محاولة للاعتداء ليس على روسيا فقط إنما على أي اعتداء يطول حلفاء روسيا أيضاً، جاء كلام بوتين متزامناً مع تحليق طائرات سوخوي 57 في الأجواء السورية ضمن مهام قتالية وهي أحدث ما توصلت إليه القوة الجوية الروسية، الأمر الذي اعتُبر رسالة روسية شديدة اللهجة واضحة المعالم موجهة إلى كل من أميركا وحليفتها إسرائيل بالجهوزية الروسية للتصدي ومنع أي محاولة تهدف إلى قلب الطاولة في سورية ومنع تقسيمها أو كل ما من شأنه عودة عقارب الساعة للخلف.
أوروبا الحائرة المرتبكة قرأت جيداً ما جاء في خطاب روسيا الجديدة فقد سارعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كما فعل رئيس فرنسا مانويل ماكرون للاتصال بالرئيس الأميركي الذي لم يستوعب عمق الصدمة جراء ما تضمنه خطاب بوتين الذي أطلق من خلاله الثوابت الروسية في النظام العالمي الجديد.
روسيا دخلت مرحلة في غاية من الأهمية تجعلنا أكثر إيماناً بأننا أمام روسيا جديدة واعدة على الصعد كافة منها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لديها ما يكفي من القوة الكفيلة بردع أي محاولات أميركية تهدف إلى تطويقها وردع كل من تخوله نفسه الضغط على روسيا لتغيير سياستها في المنطقة والعالم.
إن رسالة روسيا الجديدة وصلت إلى من يعنيهم الأمر وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأميركية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن كسر وانتهاء سياسة القطب الواحد وأن سياسة روسيا في المنطقة والعالم لن تتغير إلا بما تقتضيه المصلحة الروسية ومصلحة الحلفاء في المنطقة تحديداً مصلحة سورية الدولة.
إن ما كتب في الكرملين قد كتب وإن عقارب ساعة الساحة الحمراء لن تعود للخلف وإن عدتم عدنا والبادئ اظلم.