كأن الرئيس نجيب ميقاتي فتح المعركة الانتخابية وهو يعلن أنه بصدد وضع اللمسات الأخيرة على لائحة العزم. يؤكد ميقاتي في إعلانه أن اللائحة قيد الاكتمال، أي أنه عازم على تشكيل لائحته الخاصة به، ولا يحتاج لأن يرفد قوته بقوى أخرى. إنها لغة الأقوياء، الواثقين من موقعهم، ومما زرعته أياديهم.
وفي الكلمة المترافقة عن إعلانه، يبدو الرئيس ميقاتي طرابلسيا بامتياز. وهو كذلك، ولو اراد أن ينسحب في التحرك السياسي على مستوى لبنان لفعل، لكنه يدرك أنه في التركيبة اللبنانية، سيتخلى عن خطابه الوسطي المعتدل والمرن، إلى خطاب لم يكن يوما يريده وهو الخطاب الطائفي المذهبي الذي استخدمه آخرون، خصوصا من قادة ساحته، لشحن النفوس، وتعبئتها، وتحريضها بما يزيد الانقسام العمودي في لبنان، ويرجع به خطوات إلى الوراء، تضاف إلى الخطوات التراجعية التي أصابته منذ اندلاع الأحداث، فالحقت بابنائه الأضرار الجسيمة، وبأجياله أوخم العواقب فأودت بعشرات الآلاف منهم خارج البلاد.
يؤثر ميقاتي الخطاب المحلي الطرابلسي دون التخلي عن الموقف الوطني الجامع. فالوسطية والاعتدال ليست طرحا لمدينته، وهي الوسطية والمعتدلة والمتعايشة مع الاخرين في أحلك الظروف. إنما هو شعار وطني يطرحه ميقاتي كموقف جامع، متجاوز للتفرقة، والانقسام.
أبعد ميقاتي عن سياسته مفهوم الغاية تبرر الوسيلة مهما كان ثمن ذلك، خسارة أم ربحا، وتمسك بمبدئية واضحة، ومباشرة، وصريحة، لا لبس فيها، وكان لذلك الموقف صدىً مزدوجا، فمن ناحية، فوَت على نفسه ربح الشارع بعصبية مفقودة عند ميقاتي، لكنه من ناحية ثانية، جعله مقربا من الناس، والأطراف السياسية، وبقية القوى التي تجد في اعتداله إمكانية التفاعل معه دون تحفظ، والتقرب منه دون تردد.
وفي محاولته شد عصب جمهوره، اعتمد ميقاتي الخطاب المناطقي الذي لا يشكل نفورا أو حساسية عند أحد، فمن حقه، كما من حق أي سياسي آخر، العمل لمدينته، ورفع مكانتها، وليس في ذلك حصرية مناطقية، بقدر ما فيها من منفعة وطنية، خصوصا في مدينة كطرابلس، أهملت عقودا طويلة، لكنها تكتنز من المواقع والمراكز ما يؤهلها أن تكون في مصافِ مدن الشرق، وبالتالي، يقع على ميقاتي، وعلى كل من يريد العمل في الشأن العام، العمل على تطوير المدينة، ومساعدتها، لتعيدها في رأس المعادلة الوطنية، كما قال.
لقد لعبت طرابلس في التاريخ أدوارا هامة، وكان لها موقعها ومكانتها على الدوام، وفي العصر الحديث، دفعت اثمانا كبيرة في تمسكها بانتمائها العروبي، ويوم رفضت الانفصال عن محيطها العربي، غضب الأجنبي منها لأنها شكلت عقبة في طريق مشاريعه التفتيتية، فتهمشت المدينة منذ ذلك الحين، ووضعت على هامش الخارطة الوطنية. ولولا الأدوار الكبيرة التي لعبها بعض قادتها في مراحل مختلفة، في حركة سياسية أفهمت القاصي والداني أن طرابلس لا يمكن الاستغناء عنها، ولا تجاهل دورها، ومكوناتها، وما يمكن أن تؤثره في الحركة السياسية العامة، وفي مختلف جوانب الحياة.
ميقاتي لا يخرج عن لعب هذا الدور بالتحديد. هو يعرف مكامن القوة، والخير في مدينته، وهو يعرف معاناتها، ومعاناة اهلها، ويعرف أنها ظلمت، وهمشت بما لا تستحق، فاتخذ لنفسه، بما لديه من إمكانات، مسارا لرفع شأنها، فأسس فيها الجامعات والمدارس والجمعيات الناشطة، ودعم الكثير من منشآتها الاجتماعية والخيرية، وساعد أهلها بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم، يوم همشتهم الدولة، والمرجعيات المعنية، إن على المستوى العام الرسمي، أم على المستوى الخاص.
لذلك رفع شعار معركته أن تكون له "كتلة تستعيد قرار طرابلس"، شعار منطقي، ومعتدل، يفترض أن لا يثير حساسية عند أحد، إلا كارهي المدينة وأهلها، وهو واجب عليه، كما هو واجب على كل أصحاب المواقع المؤثرة.
وعندما قال أننا لا نريد كتلة ملحقة بتيارات أخرى من خارج المدينة، فإنه بذلك يستعيد للطرابلسيين ثقتهم بأنفسهم، ويبعد عنهم حالات اليأس والاحباط التي تسببها لهم الآخرون، في محطات مختلفة، جلية، لا تحتاج لتوضيح.
ميقاتي أعاد لطرابلس بوصلتها التاريخية، وسدد مسارها، وأعادها إلى حظيرة الوطن يوم أخذها الآخرون خلف مصالحهم الشخصية نحو النار والدمار والخراب، غير مكترثين بمصلحتها، ومستقبلها، وبابنائها، واعتمدوا سياسة "الولد اللي مانو من بطني الله لا يردوا"، كما يقول المثل، ويقدم ميقاتي نفسه، كابن المدينة، وبما له من إمكانات ودور، ليستعيدها إلى موقعها الطبيعي التاريخي الريادي.