في العام 2008، افتتح جهاز امن المقاومة واحدة من أكبر عمليات مكافحة التجسس الإسرائيلي، تنفيذياً. أوقف العميل علي الحراج، ليلحق به عشرات الموقوفين على يد استخبارات الجيش، وفرع المعلومات الذي دخل الميدان نفسه بتوقيف أديب العلم. مئات الموقوفين، خرج عدد ضئيل منهم لكونهم أبرياء.
فر آخرون إلى خارج البلاد، وأجبِر أحد المشتبه فيهم على تقديم استقالته من مؤسسة رسمية كبرى، بسبب عدم وجود أي دليل يدينه، باستثناء اتصال لنحو 56 ثانية بهاتف مشغّل اسرائيلي. كانت تلك واحدة من اكبر الضربات التي تُوجّه لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان)، الجهاز الأقل شهرة، مقارنة بالموساد، لكن الاكثر فعالية في دول المواجهة المباشرة مع العدو.
عشرات المقاومين المجهولين، والضباط والرتباء، جهدوا طوال أشهر لإعداد ملفات الموقوفين. بعض العملاء استلزم القبض عليه أشهراً من المراقبة. وفي بعض الحالات، احتاج الامر لسنوات. بعضهم سقط بدليل تقني بسيط. آخرون كانت تحركاتهم موثقة، في لبنان وخارجه، ولو أن هذا الجانب من الادلة بقي سرياً ولم يُعرض على المحكمة. سارت العملية على ما يُرام. التنافُس بين الاجهزة، كان إيجابياً إلى حد بعيد، فأثمر إسقاط الكثير مما زرعه العدو على مدى عقود. فبعض العملاء تجنّد للعمل لحساب إسرائيل منذ العام 1983! لم يشب العملية أية شائبة تذكر... إلى أن أوقِف العميل فايز كرم. هنا، دخلت السياسة بمعناها اللبناني الحقير. كرم هو في المرتبة الدنيا من نادي حاكمي البلاد. وهؤلاء، آلهة لا يمسهم أحد. لا يُحاكم منهم سارق، ولا قتّال. الاستثناءات قليلة. النزاع السياسي في دولة ما بعد الانسحاب السوري سمح بتوقيف كرم. لكن النادي سرعان ما حرّك أذرعته: نواب يدافعون عن كرم كما لو انه بطل محرِّر. إعلام يتجنّد لتصوير مظلوميته. وقضاة طامحون لمناصب اعلى، يسمعون ويطيعون. حكم إدانة كرم صَدَر عن المحكمة العسكرية بطعم البراءة: الحبس لسنتين فقط لا غير. قبله، كانت المحكمة نفسها قد حكمت على العملاء علي منتش وأسامة بري (وغيرهما) بالإعدام، وعلى هيثم الظاهر (وغيره) بالسجن المؤبد، وعلى زياد السعدي وآخرين بالسجن لعشرين عاماً. احكام «طبيعية» لعملاء العدو. لا فرق بينهم وبين كرم سوى بالطبقة التي ينتمي إليها كل منهم. كرم يقف على عتبة طبقة الآلهة. اما العملاء الآخرون، فعملاء من عامة الشعب. خلف كرم، تنظيم سياسي، ولوبي أشبه بشبكة من المحافل السرية تضمن فك حبل المشنقة عن رقبة أي كان. خرج كرم بعد ذلك بحكم من محكمة التمييز العسكرية، يعيد له كافة حقوقه المدنية.
كانت تلك الضربة الأقسى التي يتلقاها ملف مكافحة التجسس الإسرائيلي. لسعة تذكّرنا بواقع أننا لا نعيش في دولة. ليست مزرعة حتى. هي نكتة سمجة جداً. ما يُسمى دولة، بأركانها، رعت مهزلة الحكم على كرم، وفتحت الباب لإطلاق عملاء آخرين. ضباط تعاملوا مع العدو لعقود، يخرجون بعد أربع سنوات في الحبس. قائد جيش (سابق) يتفق مع رئيس جمهورية (سابق أيضاً) على إطلاق سراح عميل بحكم مخفف. وهذا العميل ضابط كان متوقعاً له أن يتولى قيادة الجيش يوماً ما. وذريعتهما ان زوجة العميل مريضة، وليس لها من يقف بقربها في محنتها. ضابطٌ عميلٌ حرّ. هكذا هي المعادلة التي أرساها أشخاص يُقال لهم رجال دولة، ولا يخجل بعضهم من التفوه بعبارات كبيرة كـ«بناء الدولة» و«تحييد لبنان» و«إعلان بعبدا» وغيرها من التفاهات. كل من له عشيرة او طائفة أو عائلة أو حزب سياسي يطالب به، يخرج من السجن، ولو كان عميلاً متورطاً بدم اللبنانيين. فمن لا يتورعون عن وصف أنفسهم بالمسؤولين، لا يقيمون ادنى اعتبار للأمن الوطني. غالبيتهم أصلاً ليسوا سوى مجموعة من الكسالى، والطفيليين العاجزين عن وضع خطة واحدة لتحسين حياة مواطن واحد ولو بعد قرن من الزمن. عملاء بالفطرة. يستجدون الكرسي في عنجر أو في الشام أو في واشنطن وباريس والرياض. ينتظرون حقيبة المال السعودي او القطري او الإماراتي... لا فرق. يبدو واحدهم كمن وُلِد ليكون جاسوساً. لا جدوى من مطالبتهم بأن يراعوا دمنا الذي لم يجف. هل إسرائيل عدو فعلاً؟ لكثيرين منهم ليست كذلك. بعضهم مستعدون للمشاركة في قتلنا، مرة واثنتين وثلاثا وأكثر. هؤلاء الذين أفسدوا كل شيء، من بيئتنا إلى اقتصادنا إلى أحلامنا، أفسدوا أيضاً ملفاً بخطورة مكافحة التجسس الإسرائيلي. ولا عتب عليهم. العتب على من صمت على فعلتهم، لأنه لا يشبههم. ولان اول الدم المسفوك دمه. ولأن منه مَن يخوض الحرب الأمنية الأشرس في مكافحة التجسس المعادي.
ما جرى في ملف فايز كرم، يشبه إلى حد بعيد ما تعرّض له زياد عيتاني. الاول ضابط عميل حر. والثاني، بريء يُزج به في السجن بتهمة العمالة. خُدعنا جميعاً، حتى صار الواحد منا لا يعرف من يصدّق. زياد لا يفعلها. لكنه اعترف. والقاضي صادَق على اعترافه. ما العمل؟ خُدِعت الدولة كلها. الدولة نفسها التي لا تلتفت لحدث شديد الأهمية ككشف واحدة من خلايا العدو التي نفّذت تفجير صيدا في الرابع عشر من كانون الثاني الماضي (لا اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى، لا مؤتمرات صحافية، لا شكوى ولو لله)، خدعتنا بأن أخبرتنا بأن زياد عيتاني عميل. ثم صدقناها. مرة جديدة، يتعرّض ملف مكافحة التجسس لضربة قاسية. كيف تُترك هكذا قضايا شديدة الخطورة بأيدي هواة؟ سؤال ساذج أيضاً. الدولة بأمها وأبيها دولة هواة. ربما لم يسبق لبلد آخر على هذا الكوكب، في حالة السلم، أن أسقطت أجهزته الامنية عدداً من الجواسيس مشابها لما تم توقيفه في لبنان منذ العام 2008. لكن ذلك لم يدفع بنائب واحد إلى تقديم اقتراح قانون واحد لتشديد العقوبة على العملاء؛ لإقامة محكمة خاصة بالتجسس... لم يُساءَل أي قاض خفّف حكماً على عميل. ولن يُحاسَب اليوم أي قاض او ضابط شريك في الخديعة الكبرى التي تعرضنا لها. سوزان الحاج أيضاً تقف على عتبة طبقة الآلهة. حتى الآن، هي بريئة. بحكم القانون والأصول وقياساً بأي معايير. لكن، حتى لو كانت مذنبة، فلن تبقى في السجن. ستخرج بعد أشهر، حتى لو تقدّم زياد عيتاني بادعاء شخصي ضدها، ولو فعل مثله الزميل رضوان مرتضى الذي تقول التحقيقات الأمنية إنه كان الضحية التالية للحاج وشريكها المفترض إيلي غ. اللذين كانا يريدان تلفيق تهمة له، شبيهة بما يُزعم انهما لفّقاها لعيتاني.
نقطة الضوء الوحيدة خرجت من الطريق الجديدة امس. من الناس الذين ننعتهم بـ«العاديين». هؤلاء هم المسؤولون الحقيقيون. والحكم عندهم بديهي، بلا حسابات: إسرائيل عدو، والتعامل معها هو أسوأ جرم يمكن ان يرتكبه لبناني. ولهذا السبب لم يصدّقوا أن زياد عيتاني عميل، واحتفلوا ببراءته. هذه هي بيروت.