كان لخبر اقالة وزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون في الساحة الاميركية والعالمية، وقع المفاجأة المتوقعة. هذا التعبير ولو انه يحمل تعابير متضادة، الا انه يعكس حالة منتظمة بدأت الولايات المتحدة والعالم يعيشها منذ وصول الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى البيت الابيض. هناك من يشبّه العهد الاميركي الحالي برواية القطار السريع لاغاثا كريستي، حيث يُقتل الركاب بشكل مفاجىء، ولكن المفارقة الرئيسية بين التشبيهين هي انه في الرواية تبقى هوية القاتل غامضة الى النهاية، فيما في الواقع الحالي الاميركي فإن هوية الجاني معروفة منذ البداية وهي ترامب نفسه.
لم يكن تيلرسون الضحية الاولى على متن قطار ترامب السريع، ولن يكون الاخير، وليس سراً ان عمليات الاستقالة والطرد التي شهدها عهد ترامب منذ اكثر من سنة، كسرت كل الارقام في هذا المجال لعهود الرؤساء الذين سبقوه على مدى سنوات طويلة. ولكن، طرد تيلرسون كان له مغزى خاص، فهو اولاً وزير الخارجية اي من المفترض ان يكون صورة السياسة الخارجية الاميركية في العالم، كما انه ثانياً صديق لترامب في عالم الاعمال كونه رئيس شركة "اكسون موبيل" ويتفق مع الرئيس الاميركي في الفكر التجاري، فما الذي جعل الامور تحتدم الى هذا الحد؟.
التفسسير البسيط الاولي يشير الى ان الرجلين لم يتفقا سياسياً على مواضيع محددة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، النظرة الى الاتفاق النووي الايراني واتفاقية المناخ (اتفاق باريس)، والعلاقة مع روسيا... اما التفسير الاكثر عمقاً فلا يمكن تأكيده، ولكنه ليس بعيداً عن المنطق. ويشير اصحاب هذا التفسير الى ان طبيعة الرجلين لا تتفق كعلاقة رئيس ومرؤوس، فقبل توليه الرئاسة، كان الاثنان يتحادثان من باب الزمالة والعلاقة الشخصية، اما اليوم فتيلرسون بات مجبراً على اتباع اوامر غير مقتنع بها، ولانه رئيس شركة "اكسون موبيل" فهو غير معتاد على هذا الامر، ولم يتقبله بسهولة. ويتابع اصحاب التفسير الثاني كلامهم فيقولون ان العلاقة بينهما كانت تسمح بتخطي بعض الحدود في الكلام، ومن هذا المنطلق تردد ان تيلرسون وصف ترامب بأنه "مغفل"، وهذه الكلمة كان يمكن قولها سابقاً بين الاصدقاء، ولكن ترامب لم يتحملها بعد ان اصبح رئيساً، واراد ان يدفع تيلرسون ثمنها.
من الطبيعي الا تكون هذه الكلمة هي السبب الرئيسي لاقالة تيلرسون، ولكن انطلاقاً من المبدأ نفسه، لم يعد ترامب يحتمل تضارب المواقف مع تيلرسون والمعاملة الندّية، خصوصاً وانه اظهر تقدماً عليه بالنسبة الى التعامل مع كوريا الشمالية حيث نصحه مراراً وتكراراً باعتماد المقاربة الدبلوماسية، فيما اعتمد ترامب المقاربة الهجومية الى ان وصلت الامور الى ما هي عليه اليوم.
قطار ترامب السريع لا يرحم ابداً مهما كان قريباً من الرئيس الاميركي، وضحاياه لم يعمّروا طويلاً في مناصبهم الجديدة، وما قاله ترامب بعد اقالة تيلرسون من انه يقترب من حكومة يتناغم معها، اخاف كل من يعارضه الرأي وجعله هدفاً محتملاً ينتظر مصيره المعلّق، وفي مقدم هؤلاء وزير الدفاع جيم ماتيس الذي يعرف عنه عدم تناغمه مع افكار ومواقف ترامب، ويتوقع الجميع ان يكون الضحية التالية.
ان اختيار مايك بامبيو لمنصب وزير الخارجية يجعل من ترامب رجلاً قوياً في ادارته، ويضعه في مقعد السائق بعد ان كان المشرف العام، كما انه من خلال هذه الميزة، يحتفظ بمصدر معلوماته القيّم (وكالة الاستخبارات المركزية سي. آي. ايه) بعد ان تتولى جينا هاسبل-وهي مساعدة بامبيو في الوكالة لنحو سنة- المسؤولية الاولى في الوكالة.
يخاف الكثيرون مما ستسفر عنه "مجازر" ترامب في الادارة الاميركية، ولكنهم كلهم ينتظرون المحطة التي سيتوقف عندها القطار لان السرعة العالية المنطلق بها حالياً تجعل من الصعب معرفة محطته التالية ووجهته النهائية، بعد ان ازيلت حواجز الحماية التي كانت موضوعة لمن يعارض الرئيس في الرأي.