تشير التطورات المتسارعة إلى مدى التراجع الذي يطاول تيار "المستقبل"، بدءا بالواقع الاقليمي، وعلاقة زعيمه الملتبسة بالمملكة العربية السعودية، إلى ما رافق تشكيل لوائحه االانتخابية، ومعاني اختيار البعض، بمقابل التخلي عن العديد من ركائز التيار، وحركة ١٤ آذار، ممن كانوا يعرفون بصقور تلك المرحلة زمن انتفاخها، أمثال رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، وعقاب صقر، وأحمد فتفت، وجمال الجراح، ومعين المرعبي، ومصطفى علوش، وسواهم، بالإضافة إلى المنشقين عن التيار أمثال خالد ضاهر، وأشرف ريفي، وعلي القادري.
وليس خافيا على أحد انقلاب ميزان القوى الاقليمي انقلابا جذريا مع آخر تطورات الملف السوري، والتقدم الكبير الذي يحققه الجيش السوري في الغوطة، تضاف إليه إخفاقات كثيرة، خصوصا منها حرب اليمن حيث تورطت المملكة العربية السعودية وتحالفها، ولم تعد قادرة لا على التقدم ولا على التراجع، والسيف الدولي-الأميركي مسلط فوق رقبتها.
وفي هذه الأجواء، جاءت مشكلة الرئيس سعد الحريري مع المملكة العربية السعودية، الأولى والثانية، لتؤكد ضعف التيار على المستوى الخدماتي- اللوجستي الذي يحتاج للأموال الطائلة للإقلاع، وخوض معركة صلبة، حتى كادت خدماته، وتقديماته، تكون معدومة، لا بل بات هو يحتاج لمن يدعمه ويساعده.
وعلى الصعيد المحلي، وانعكاسا لكل تلك التطورات، وحيث تتصدر المعركة الانتخابية كل اعتبار، يأتي تشكيل اللوائح المستقبلية ليشير، بصورة طبيعية، إلى مزيد من التراجع والانهيار. تجلى ذلك حسب ما ذكرنا سابقا، بإبعاد صقور المرحلة الماضية التي أعقبت أحداث ٢٠٠٥ التي انطلقت منها شرارة الرابع عشر من آذار مع ما حملته من توتر، وتعبئة عصبية مقيتة، وكان هؤلاء زادها ونارها.
وتأتي النسخة الأولى للوائح الانتخابية، خصوصا بعد الزيارة الثانية، الملتبسة النتائج أيضا، للمملكة العربية السعودية، لتؤكد خلو وفاض الحريري سعوديا، وتطلعه شرقا، بطرفة عين، وربما أكثر من ذلك، وأولى الآفاق الأفق السوري.
كان المفترض، بعد انتصارات سوريا ومحور المقاومة، ان يتجه الحريري إلى سوريا بطريقة ما. ربما لم يشأ النظام السوري فتح أبوابه له بعد كل تلك الجراح البليغة التي كان الحريري من أسبابها في سوريا. لكن الضغط السعودي كان لا بد أن يلعب دورا في لجم حركة الحريري شرقا. وإذا اضفنا إلى ذلك العنصر، عنصر تعبئة الشارع السني ضد الحريري في حال توجهه إلى سوريا، وبالتالي مما سبب له بالتردد باتجاه سوريا، نجد أن الحريري لم يكن بعيدا من هذه الرغبة، وهو وطاقمه السياسي، يدركون انقلاب ميزان القوى في غير صالحهم، وانعكاس ذلك على المعركة الانتخابية اللبنانية.
نتيجة لتلك التطورات مجتمعة، وإثر عودته من المملكة السعودية خالي الوفاض، كما يبدو، أرسل رسالة باتجاه سوريا، تعبيرا عن الاستعداد لتلبية ما تتطلبه ظروف انتصارات محور المقاومة بعد المعركة الانتخابية. لم يشأ الحريري الذهاب إلى سوريا كي لا توظف زيارته بما لا تحمد عقباه، وهو المخذول سعوديا، فعمد إلى ضربة معلم في تشكيل اللوائح، هي إشارة إلى الشعور بالضعف، وهي رسالة للمرحلة المقبلة.
لترضية السوري، كان عليه مخاطبتها من أقرب نقطة إليها، أي دائرة محافظة عكار الانتخابية، حيث ضمن لائحته اسمين سنيين محسوبين على سوريا هما محمد سليمان، ووليد البعريني، أما الثالث، فلم يكن تاريخ حركة بيته على توتر مع سوريا، أي طارق، نجل النائب الاسبق طلال المرعبي. ومارونيا، شدد على حليفه هادي حبيش المعتدل في مواقفه تجاه سوريا.
وعلى الصعيد العلوي، لم يأتِ الحريري بقوي في الطائفة، وكأنه ترك المركز مفتوحا لعلوي ترغبه سوريا على تخومها الشمالية. أما الأرثوذكسي الثاني الذي اختاره، فهو وهبة قاطيشا الذي سيحمل الحريري ثقلا كبيرا من أجل نجاحه، وكأنه ترك بذلك الفرصة للسوري لإيصال من يريد، والإشارة هنا إلى مرشح تيار المردة كريم الراسي.
قراءة سريعة لتشكيلة الحريري الانتخابية عكاريا، تدل بوضوح على ضعف موقفه، وخياره المكبوت حتى مرحلة ما بعد الانتخابات.
على مستوى المحور المقابل، يتقدم تياران لافتان تيار المردة الذي نجح بالتمدد، وتيار العزم الذي بات بديلا في الساحة السنية خاصة بعد التنافر بين تكتلات المستقبل من جهة، والجماعة الاسلامية من جهة اخرى، وايضا بعد فقدان الثقة مع بقية المجموعات الاسلامية ذات الميول السلفية.
وعلى صعيد الرئيس نجيب ميقاتي بنوع خاص، فقد تمكن من ايجاد نوع من التوازن مع بقية التكتلات بين 14 و8 اذار دون ان يكون جزءا من لعبة المحاور. لقد عمل طيلة السنوات الماضية على احتواء الخطاب الطائفي، والمذهبي بالتوازي مع استمراره بالعمل الخدماتي، والاجتماعي وراكم انجازات خدماتية دون كلل، او ملل، ليتحول الى حاجة، وضرورة- أشبه ما تكون وحيدة- لكافة الفئات الشعبية والاجتماعية على مستوى كل مناطق الشمال، وخاصة الفئات الفقيرة والمهمشة .
كل هذا ادى الى بلورة تيار غير مرئي ترتقب ترجمته بالانتخابات النيابية مما سيجعل الرئيس ميقاتي يفوز بأغلب المقاعد النيابية في دائرتي طرابلس وعكار.