قالوا: هات حدثنا عن الصوم من وحي هذا الزمن.
قلت: إنه الصوم!
إنه تعبير الأمم والشعوب، بأديانها المختلفة، عن أهمية التقشف والترفع فوق المادة ومحاربة الأنانية والبغضاء والكبرياء وفساد النفس، للتغلب على الشر والهلاك. إنه دعوة من السيد المسيح للخروج من حالة الهلاك بواسطة الموت عن الذات والتضحية بالذات من أجل الانتصار على الخطيئة المهلكة للناس.
وفترة الصوم مناسبة تجددها الكنيسة للتذكير بضرورة التوبة والعودة إلى محبة الله والآخرين، والاستمرار بهما ليتحقق مفعول الصوم.
وما هذا الزمن إلا صورة لكل زمن. هل تذكرون صوم نينوى؟ ذاك الصوم الذي خلص المدينة من الهلاك ومن الغضب؟.
تعالوا نعود معا إلى نينوى، إلى قبل ألفي سنة، تلك المدينة التي عمها الفساد، وأرسل الله لها النبي يونان ليحذرها "لأن شرها صعد أمام وجه الله". وهرب يونان لصعوبة المهمة، ثم رضخ لصوت الرب بعد أن عاد من بطن الحوت!.
وفي هذا الزمن، ألا ترون أن الفساد صعد أمام وجه الله؟ وأين شر نينوى القديمة من شرور هذا الزمن!! وكل العجب بأن كثيرين لا يريدون أن يسمعوا ولا يريدون أن يروا. ألا ترون طبقة متحكمة تعيش في الفحشاء وشعبا أذله الفقر والظلم؟ ألا ترون دويلات الفساد والمحاصصات وثقافات الموت، يدخل أسيادها المقرات الفخمة والجوامع الشاهقة والكنائس البراقة، فيما مواطنوها على أبوابها يشحذون؟ ألا ترونهم يتباكون على أحوال الناس وهم على أفخر موائد العشاء كما الغداء؟ ألا ترون شعوبا تسير قطعان جهل وراء الكراز وقد أقفل على فكرها الغباء؟.
ربما لم نعد نرى، لأن عيوننا فقدت النور بعد أن افتقدت الكهرباء. ربما لم نعد نسمع لأننا مرضنا ولم نستطع الوصول إلى الماء والدواء. ربما لم نعد نحس وقد اجتاحتنا الأمراض والنفايات.
إنه جيل شرير يطلب آية. وها هو السيد يجيب: "رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي".
آية يونان النبي؟ وما هي؟ هل هي أعجوبة عودته من بطن الحوت ليحمل رسالة التوبة إلى نينوى؟
لا بل هي أعجوبة نينوى المدينة العظيمة التي استحقت الخلاص:
بمجرَّد أن سمع الملك نداء يونان، تحرك ضميره... لم يأمر الناس بالصوم والصلاة ولم يسمعهم الوعود والعظات، بل نزل حالا عن كرسيه الملكي ونزع عن نفسه كل أنواع الفخفخة والغنى والفساد والمظاهر الفانية الكاذبة، ولبس ثوب التوبة وطهارة الصدق وجمال العدالة. ثم أعطى الأمر بالصيام وبرفع الطعام عن كل إنسان وبهيمة لثلاثة أيام... فتغير وجه الله وابتسم بالغفران!.
يا لحكمة الزعيم. لم ينتظر آية بل تواضع وصام ورفع الدعاء. تاب الزعيم وتابت المدينة وعفا الرب عن الجميع.
صومنا في هذا الزمن يسمعنا صوت يونان وصوت الأنبياء! نحتاج إلى توبة عظيمة، إلى توبة يلبس فيها الزعماء المسح أولا!.
فهل سيتقدم الزعماء دينا ودنيا موكب الصائمين ويتخلون عن أثوابهم الذهبية ويلبسون المسوح؟
هل سيرتدون عن وحشيتهم وتجارتهم للسلاح والأرواح؟
هل سيقلعون عن القمع والتعذيب وتلفيق التهم؟
هل سيتخلون عن الأنانية والقوقعات الدينية والسياسية؟
هل سينبذون كل أنواع العنف الحروب ويفهمون أنها لم تكن يوما لصالح البشرية ولن تكون؟
هل سيتجرؤون على إعلان إنهاء الحروب وإنهاء عبوديتهم لشيطان المال والسلطة؟
هل سيتوبون عن النهب والسرقة ويمتنعون عن التبذير والإفراط وكثرة الرخاء والمتعة، ليعملوا على مساعدة المحتاجين؟
هل سيحسنون التدبير ويبتعدون عن المضاربة والاحتكار وأكل مال الفقير؟
هل سيلبسون علامات التوبة قبل فوات الأوان؟ هل سيندمون على ما فعلت أيديهم بالوطن والمواطنين؟
هل سيشاركون الناس آلامهم ومآسيهم؟
هل سيمارسون سياسة احترام الحريات الفردية وتوسيع دائرة التعبير عن الرأي؟
هل سيعطون دفعا متجددا للدولة المدنية دولة الإنسان المكرم، حيث يعيش الجميع من مختلف العقائد والأفكار الدينية على قاعدة الاحترام المتبادل والحوار المنفتح على كل احتمال والمفتوح على الخير والسلام؟
هل سيشعرون أنهم بالصوم يحققون العدالة وملكوت الله على الأرض؟
وهل سندخل جميعا في حالة توبة جماعية ناشطة لنذلل الغرائز التي فينا بالجوع والمسوح؟
يا ليت الجواب يكون نعم لنحصل على كل النٍعم. يا ليت صومنا يكون نينويا فنقتني محبة الله، فلا يكونن مصيرنا كسدوم وعامورة إنما كمصير نينوى مسامحة وغفرانا وشمسا مشرقة.
وفي الختام أقول:
ما أروع ذاك الملك السماوي الذي تخلى عن عرش الألوهة وانتزع لنا الخلاص!
وما أروع ذاك الزعيم الأرضي الذي من أجلنا يرتضي بالرماد والتراب!
وأنتم في زمن الصوم، فتشوا عن الزعيم الذي يلبس المسح من أجلكم وانتخبوه، وفتشوا عن ذاك الذي افتداكم بدمه واتبعوه!.
*رئيس دير روما للرهبانيّة المخلصيّة