ما إنوضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وشهد الحلفاء على قوة الاتحاد السوفياتي وانتصاره على النازية إلى أن سارعوا بالإنضمام إليه لكسب شرف الانتصار، والادّعاء أن لهم نصيباً من هذا النصر. ولكن، ومنجهة أخرى، سارعت الدول الغربية إلى نسيان خلافاتهم الرأسمالية لتقسيم العالم، ونهب ثروات الشعوب، وتشكيل حلف الناتو ليواجه الاتحاد السوفياتي. وأدركوا في قرارتهم أنّ المستقبل سيكون للاتحاد السوفياتي مالم يتخذوا إجراءات تزيد من عوامل قوّتهم وتكبح جماح عنفوانه وسطوته. وبدؤوا منذ ذلك الوقت يزيدون من تعاضدهم وتعاونهم عبر المحيطات كي يبقى استئثارهم بثروات العالم نافذاً. هذه الثروات التي بنيت امبراطورياتهم وعواصمهم وقوّتهم وازدهارهم الذي يفتخرون به. وهكذا، ومنذ زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاتحاد السوفياتي في العام 1972وحتى تفكيك الأخير في أوائل التسعينيات، وهم يعتمدون أساليب الترغيب والترهيب للخلاص من هذا المنافس الذي أثبت قوته وجدارته وجذبه لكثير من الدول والملايين من شعوب الأرض، وطوال تلك الفترة اصطفّت مشايخ الأعراب في السعودية والخليج وتركيا مع قوى البغي والعدوان والنهب الغربية بخنوع مستدام منذ ذلك الحين.
واليوم، ومع أنّ حرباً عالمية ثالثة بدأت مع مجريات الأحداث خلال الذي أسموه «ربيعاً عربياً»، وهي حرب نهب استعمارية لذهب ونفط وثروات العرب في العراق وليبيا وسورية واليمن والخليج، إلّا أنّ إرهاصات نهاية الحرب على سورية قد ولّدت في نفوس الحكومات الغربية ذات الشعور بالذعر الذي انتابهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية. إذ إنّ المخطط هو تفتيت وتقسيم الدول العربية وإخلاء المنطقة للقوة الإسرائيلية وحلفائها والاستعباد والنهب الاستعماريّ المكشوف بقمع أيّ مقاومة عربية وإذا بالنتائج تقوّض أوهامهم من خلال نشوء تحالف روسي – سوري – إيراني مرشّح أن يغيّر وجه المنطقة وأن يشكّل عائقاً حقيقياً في وجه غطرسة القوى الغربية وأداتها الأساسية؛ الكيان الصهيوني. ومن هنا فقد بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية باتخاذ إجراءات استثنائية ضدّ روسيا وإيران وسورية من عقوبات اقتصادية، إلى محاولات تقويض الاتفاق النووي مع إيران، إلى طرد دبلوماسيين روس من لندن، واصطفاف ألمانيا وفرنسا وأمريكا مع المملكة المتحدة وتأييدهم لها في هذا الإجراء دون أيّة أدلّة أو إثباتات على الفرضيات التي وضعتها المملكة حول الجاسوس الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال. والواقع هو أنّ كلّ الذرائع المختلفة لزيادة توتير الأجواء مع روسيا وإيران وسورية تبقى مجرّد ذرائع لتنفيذ سياسات معدّة سلفاً من سلخ أوكرانيا عن الحليف الروسي التاريخي، إلى الوقوف في وجه السياسات الروسية في سورية والشرق الأوسط بمناسبة وبغير مناسبة. الدافع الأساس وراء هيمنة المتشدّدين اليوم في الإدارة الأمريكية واستبعاد الحمائم من مراكز القرار هو هذا الخوف من صعود القوة الروسية في العالم وكابوسهم هو أنّ بوتين يعيد لروسيا قوة الاتحاد السوفياتي، والذي أمضوا عقوداً مستخدمين كلّ الوسائل المتاحة لديهم من أجل تفكيكه. وفي قراءة متأنية للأعمال والتصرفات نجد أنها خارجة عن المألوف فيما يتعلّق بالعرف الدبلوماسي والعلاقات بين الدول. فمتى كانت سفيرة الولايات المتحدة، فيما يفترض أنه أرقى منبر دولي، تشير إلى استخدامها الكعب العالي لضرب كلّ من ينتقد «إسرائيل»، وتتنكّر لمواطن أمريكي يشرّف سجلّه الولايات المتحدة من تحصيل علميّ وقانونيّ وموقف إنساني عادل، وهو البروفسور ريتشارد فولك، فقط لأنه اتخذ موقفاً جريئاً بمساندة الحقّ الفلسطيني في وجه الطغيان الإسرائيلي وظلمه لهذا الشعب المكافح من أجل حريته واستقلاله. كما أنّ تصرّفات الرئيس ترامب مع مسؤولي الولايات المتحدة هي تصرّفات غير مسبوقة ولو أنّ أحداً في بلد آخر في العالم يقوم بما يقوم به ترامب وزمرته الصهيونية واتباعه من الأعراب لاستحقّوا صفحات من النقد وإدانات ومحاكم دولية على الأسلوب المتخبّط المتّبع والاستهتار بكلّ الأعراف السياسية والدبلوماسية. أما سياساتهم تجاه قضية فلسطين فهي تفتقر لأدنى درجات احترام حقوق الإنسان وقضايا الشعوب، كما تفتقر لأدنى درجات التفكير بأحكام التاريخ مستقبلاً. وهاهو ترامب وقد تأرجح موقفه أيضاً من كوريا الشمالية يبرهن على الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي اليوم. وقد يكون تصريح وزير الدفاع البريطاني أنّ على روسيا «أن تتنحّى وتصمت» يعبّر عمّا يدور في لا شعور القادة الغربيين، وهو كيفية التخلّص من روسيا التي تزداد قوّة يوماً بعد يوم، كما يزداد تأثيرها على الساحة الإقليمية والدولية بما لا يمكن لجمه أو حتى الحدّ منه. والقضية بالنسبة لهم هي نهب الثروات في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، ولذلك فهم يدافعون بكلّ ما أوتوا من قوّة من أجل الحفاظ على تحكّمهم بمصادر الثروات، وهي الوحيدة التي تعنيهم، ولا يعنيهم سقوط الملايين من شهداء وجرحى ومهجّرين في اليمن وسورية والعراق وليبيا أو أن أهل عفرين ضحايا لجرائم أردوغان، ولا يهمهم معاناة الملايين من أهل فلسطين نتيجة القرارات الصهيونية الأمريكية والإسرائيلية الظالمة لهذا الشعب. كلّ ما يعنيهم في أعقاب هذه الحرب العالمية الثالثة، والتي ترقى نتائجها إلى نتائج الحرب العالمية الثانية، هو أن يحدّوا من عناصر قوة روسيا وإيران وسورية، وأن يتخذوا كلّ الإجراءات التي تضمن استمرار هيمنتهم على دول وشعوب الأرض ضاربين عرض الحائط بالشرعية الدولية وحقوق الإنسان، وأمن وسلامة البشر. هذه هي سياساتهم في الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا تبرهن على توصيفهم هذا، ولكنّ القوى التي فهمت جوهر أنظمتهم آخذة في التشكّل واستجماع عناصر القوة، ولا شكّ أنها هي التي سوف تمتلك مفاتيح المستقبل، ولن تجدي عقوباتهم وهوس متطرّفيهم وأساليبهم الهوليوودية في تغيير منطق التاريخ ومسيرته