الصوم تأمل وانقطاع وعودة إلى لقاء الرب المتجسد في ختام زيارته هذه الأرض، ليرفع الإنسان إلى الفردوس السماوي مرتبة الإله. هو زمن اعادة العزة إلى المخلوق المميز، الإنسان، فهل يعود؟
اجدني أعود إلى سنة 1911، للتأمّل في ما كتب المفكر والمسرحي والسياسي والشاعر الباريسي بول كلوديل في كتابه "درب الصليب" الذي نقله إلى العربية الأب مارون الحايك الأنطونيّ، ليقدم لنا في هذا المترجم تحفتين في الوقت نفسه. الأولى ترجمة هذا الكتاب الرائعة، فكأنه كتب في العربية فلا تقف أمام عوائق اللغة والنقل والترجمة، والتحفة الثانية ينقل لنا من خلال هذا الكتاب ليس فقط تأملات كلوديل في مراحل درب الصليب، بل يوجز حياته، قبل الإيمان وتبشيره بمنطقية الفلسفة ومذاهبها الفرضية الأحديّة والماديّة، التي كانت مستشرية في المجتمع الاروربي، خصوصًا في فرنسا التي عرفت "ربيع الشعوب" 1848 وما عقبها من تغيرات بقيت ارتدادتها إلى بداية القرن العشرين.
عندما هدأت عاصفة كلوديل الفلسفية، إذ كان يعتبر أن كلّ شيء خاضع لنواميس ثابتة وأن العالم هو ترابط قويّ بين النتائج والأسباب، وأن العلم واصل بعد غد إلى حل الطلاسِم كلّها، وهذا بعدما تأثر بشعر أرثور ريمبو وبأفكار ارنست رينان وإميل زولا، لفحه نسيم عليل هزّ كيانه ليتأثر بالمسيح الناصري وبعظة الجبل وبخطابات بولس رسول الأمم. فشعر بولادة جديدة رافقته إلى الرمق الأخير. إن مسيرة هذا المفكر والشاعر التائب والعائد إلى بيت الأب عن عمر 87 عامًا، أصبحت مؤلفاته مجالا للاستشهادات من كبار رجال الدين والفلاسفة واللاهوتيين وعلى راسهم البابا القديس يوحنا بولس الثاني.
أمام الصليب سجد كلوديل وتحّول كما حوّل المسيح صليبًا من خشبة عار إلى انتصار، فاختبر قوة القائم من الموت، هذا ماجعله يتأمل في مراحل درب الصليب الأربعة عشرة في أسبوع الالام المقدس. فقد بدأ ليس كحكم صدر مرة واحدة في التاريخ وحسب، بل راح يؤوّله ويؤوّنه كأنه يحدث اليوم، وهو يشارك في هذا الحدث فيقول في المرحلة الأولى، "حاكمنا الله وحكمنا عليه بالموت"، وكأن أمر الحكم قد شارك فيه هو بنفسه، في حضرة بيلاطس، والتهمة هذه المرة "نرفض يسوع المسيح معنا فهو يضايقنا"، ويضيف "لا شريعة أخرى لنا غير الدّم والذهب" وكان يعلم شديد المعرفة بأن شريعة إلغاء الآخر لاعتقاده السابق بأن الآخر هو الجحيم، بينما الآخر مع المسيح هو مسيح مفتدى مدعو إلى القداسة، والذهب الذي وضعه المجوس أمام طفل المغارة أصبح اليوم بريقًا يجذب أنانية الإنسان. أدرك كلوديل بقوله هذا معنى كلام الرب يسوع "لا تعبّد ربين الله والمال". ويضيف مرة أخرى "أنقذنا منه يا بيلاطس، اصلبه"، وكأن بصلبه نرتاح من شريعة المحبة التي تشفي...
وفي المرحلة الثانية نتأمل يسوع يحمل صليبه يتأمل كلوديل بنهاية شجرة الفردوس ومسبباتها ليس على البشر وحسب، بل على الإله المحب، وقال: "أنظر أيها الخاطئ وتأمل ما جرّته خطيئتك"، يسوع يتناول الصليب ليناولنا جسده السري والمقدس في احتفالية الإفخارستيا "لا يجرأ احد أن يفعل هذا إلا الرب وحده". ويتساءل كيف يرى يسوع الأرض التي خلقها وهو حامل الصليب على متنها.
وأجمل ما كتب كلوديل في توصيف حالة مريم العذراء في وقفتها، في نظرتها، في لعاب فمها، وقلبها المفتوح، لا تتفوه بكلمة، بل تحبس الصراخ وتنظر إلى البعيد، إلى الكنيسة المفتداة، وتشارك، وليس في قلبها رفض ولا تراجع عن تلك "النعم" الأبدية.
ويشير كلوديل إلى ان كل مسيحيّ هو صورة حقيقية عن مسيحه، على الرغم من عدم استحقاق. وعندما مسحت فيرونيكا وجه يسوع بالقماش الأبيض أصبح الكتان مقدسًا "بوجه قاطف الكرم في يوم سكره لكي تطبع إلى الأبد صورته المكوّنة من دمه ودموعه ومن تفلنا".
نعم، لقد تعمق كلوديل في المفاهيم اللاهوتية، بل تخط عصره بروحانية الفداء، ليطبع سيد الكون وجهه ليس في قلوب وحسب، بل في كل مكوّنات الطبيعة. إن سقوط يسوع تحت الصليب للمرة الثانية يقع كلوديل وينهض من فكرة الملحد إلى عظمة التضحية وأسراريّة المسيح في مسيرة خلاص الانسان، فيعبّر بقوله "لأن الطريق طويلة ولأن النهاية بعيدة... لأجل ذلك نمد ذراعينا معًا كمن يسبح!" ويناجي البريء المتألم "أنقذنا من السقطة التي نفعلها بحسب إرادتنا في الضّجر".
ويجيب بول ان كلفة خلاصنا دفعت الأب السماوي أن يضحي بابنه الوحيد وبأغلى ثمن، فهل يستحق هذا الإنسان كل هذا الحب؟ سؤال لطالما سأله كلوديل لنفسه ويدعونا نحن أيضًا للإجابة عنه.
لقد وصل تأمل كلوديل إلى أن المسيح لا يحمل مجرد خشبة، بل الإنسان الخاطئ في كل زمان ومكان ليولده ولادة جديدة بالروح والحق، محررًا إياه من الخطيئة الأصلية، حيث لا وجود ليأس بعد الأن، بل محبة شاملة وكاملة وإلى الأبد.
وهنا، يصل كلوديل إلى حالة صوفيّة في تأمله ليقول "هوذا البيدر حيث تسحق حبّة من حنطة السماء... والأب عريان بانشقاق حجاب الهيكل... والكون أصيب في صميمه يرتعش حتى عمق أحشائه".
كذلك فإن جنون الصليب قد أصاب كلوديل ليقول بطريقة شعرية: "أخذوا منه كلّ شيء، ولكن بقي الدم الأرجواني". ويتابع: "أخذوا منه كلّ شيء، ولكن بقي الجرح النازف" ويضيف "اختبأ الرب، ولكن بقي إنسان الألم. اختبأ الرب وظل أخي الذي يبكي".
إن ثنائية الخير والشر التي اعتنقها خلال دراسته تعود لتظهر مجدّدًا، ولكنه يحاول أن يعمّدها، فيقول: "يبدو أن الله ليس معنا. إنه مرميّ على الأرض... جئت إذا أنت! أنت في الحقيقة معنا يارب! هذه اليد التي يلويها الجلاّد... هي يمنى الكلّي القدرة". فنجد كلوديل على مسرح الجلجلة قائلاً : "قبضوا عليك يارب ولا تستطيع الفرار" ويخاطب المسيح "أنت مسمّر على الصليب بيديك ورجليك، ليس لي أن أبحث مع ملحد ومجنون. حسبي أن هذا الإله يحملني بأربعة مسامير". كما يرى كلوديل الصليب يهتز "مع الربّ الذي يتنفّس"، حبًا، فتهتز الأرض إلى اللانهاية إلى يوم القيامة. وحده المسيح على الصليب كما أدم كان في جنة الفردوس. فهذا جرّته الخطيئة، أما المسيح فقد جرّ الخطيئة والشرّ إلى الهلاك.
في هذه المشهديّة الآلاميّة، مريم واقفة "مثلما قبلته وعدًا تستقبله منهمكًا. اختبأ في الولادة في حشاها وهو يريد أن يختبىء مجددًا في سر القربان المقدس، في الكنيسة"، ولا ينسى المسيح أن يعطينا أمّه أمًا كونيّة. ويراها كلوديل "تشاهد، تلمس، تصلي، تبكي، تُعجب. هي الطيب والكفن، هي الجنازة والعلقم، هي الكاهن والمذبح والإناء والشراكة. هنا ينتهي الصليب ويبدأ قدس الأقداس".
لم ينته كلوديل في التأمل بالمسيح المائت، بل يعلن من على الجلجلة كما قائد المئة خبر القيامة، كما جاء بالكتب، أي الكتب النبويّة والحكميّة والتاريخية في العهد القديم.
هذا تأكيد ارتداد كلوديل العميق والفعلي، وكأني به لا يعرف قيمة الإيمان والصلاة والرجاء إلا من افتقده الرب بحبّه.
نعم، إنّ مسيرة كلوديل تعبّرعن الكثير من الملحدين الذين ابتعدوا بالعقل عن الخالق، فاذا العقل مجددًا ينحني أمام عظمة هذا الإله المتجسد ويعيش ما قاله توما الأكويني "إن السجود أمام المصلوب يزيدني إيمانًا ورجاء وعلمًا أكثر بكثير من الأطاريح".
إن الأب مارون الحايك الذي نقل هذا الكتاب ليضعه في أيدي قراء العربية الذين لطالما أنجذبوا بإلحاد الأروبيين وبتفكيرهم الشرود، أراد أن يقول لهم ولنا بأن نقتدي بمن ارتدّ واهتدى، ولا نتوقف عند مرحلة زمنية متعثّرة، بل نكمل مسيرتنا مقتدين بما قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني "إن العقل والإيمان جناحان يوصلان الإنسان إلى الحقيقة المطلقة".
وعندما انتهيت من تأملي في ما تأمل به كلوديل لم استطع أن اضع هذا الكتاب على الرفّ بل اهديته... فشكري للكبار في لغة الضاد أمثال الأب الحايك الذين يبحثون عن قديم جديد مفيد يقدّم لنا خبرة ثقافية تنويرية نتأثر ونهتدي بها وهذا ليس بغريب عن هذا الكاهن الزاهد والمتفرّغ للكتابة والتأليف في النقل والأدب والتأريخ...