شدد ممثل رئيس الجمهورية وزير الثقافة غطاس خوري خلال احتفال بمناسبة "يوم الأبجدية"، أقامته جامعة الروح القدس - الكسليك، ، في قاعة البابا يوحنا بولس الثاني، في جامعة الروح القدس – الكسليك، بالتعاون مع لجنة إحياء "يوم الأبجدية" المقرّر بالقانون رقم 186/2011 والمعدّل بالقانون رقم 215/2012، برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، على أنه "إذا كان في تاريخ لبنان ما نفتخر به جميعاً، بلا استثناء فهو وجهنا الثقافي، واسهامنا العلمي في حضارة العالم".
وأكد "أن تكون الأبجدية عنواناً لدور كبير وعظيم، في تاريخنا، فهي محل الاعتزاز، ومجال الاحتفال دائماً. لكننا لن نقف عند هذا التاريخ، بل علينا أن نتابع، ونجدد، ونبدع، كي نتيح لكل جيلٍ جديد، إمكانيات تجعله مواكباً للتطور، وهي مسؤوليتنا جميعاً، لأن التطلع إلى المستقبل والعمل من أجله، عليه أن يكون في برنامج كل مؤسسة تعليمية وتربوية، وكل سياسي مخلص لوطنه، وكل مفكر ومخطط ومثقف ومرب، فاعل وإيجابي، يرغب بصدق في إعلاء شأن الوطن ومبدعيه، وثقافته ودوره في العالم".
رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة، أعرب من جهته عن فرحه الشديد بالتعاون القائم بين الجامعة ولجنة إحياء "يوم الأبجدية"، "بهدف التعبير معاً عن حضارتنا الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، والتي، بفضل الحرف الذي أطلقته وصدّرته للعالم، قدّمت للإنسانية مادة الكتابة تُرسّخ بها وجودها، وتضمن صمودها على الزمن، فتملأ بطون الكتب حكمة وعلماً وتاريخاً ومعرفة، وتخلد، وتعيش في الذاكرة، بعد أن حمت ديمومتها من السقوط في النسيان عن طريق حضارة كلامية متنقلة بالتواتر او بالأحادية. إن الإنجاز العظيم الذي حقّقه أجدادنا الفينيقيون إنما يقوم على تحويل اللفظ الشفوي إلى كلمة مركّبة من رموز لفظية صامتة تتحول إلى لفظ مقروء. بهذا الابتكار، أصبحت الكتابةُ ذاكرةَ البشرية. مع هذه النقلة النوعية في التدوين، تحرّرت اللقاءات البشرية من المساحة الجغرافية المشتركة، وبات التواصل عن بعد على متن الكلمة المكتوبة. ولا نغالي البتة إن ذهبنا في القول إلى الجزم بأن الفينيقيين هم من أسسوا العولمة وأسقطوا التقوقع والتشرنق في الثقافات الخانقة والأوطان المغلقة والحضارات المعتقَلة ضمن أسوار الخوف والرفض وانقباض الذات. بالحرف والترحال الدائم، أسقطوا المسافات بين البشر وأطلقوا عنصرة التلاقي والتلاقح والتكامل في تآلف الاختلاف".
وأضاف انه "ليس سراً أن نبوحَ بأن الفضل في إحياء يوم الأبجدية، المقرّر بالقانون رقم 186/2011 والمعدّل بالقانون رقم 215/2012، يعود لسعادة النائب نعمة الله أبي نصر، رئيس ومؤسس لجنة إحياء يوم الأبجدية؛ وقد تميّز هذا الفارس المقدام في السعي الحثيث والعنيد إلى إظهار الحقّ بدون كلل أو مللٍ... واستلّ نعمة الله أبي نصر من الـ 365 يوماً في السنة، يوماً جعله بمثابة محطّة نتوقف عندها جميعُنا بوعيٍ وتفهّم ومقدرة على الاقتناع والإقناع أنّ وطنَنا ليس صدفةً تاريخية، وأن أجدادَنا ليسوا فقط كما يصوّرهم بعضُ المؤرّخين تجاراً واستغلاليين يتنقلون هنا وهناك بحثاً عن موانئِ البيع والاتجار..."
وأكد الأب حبيقة "أن "يوم الأبجدية" يشكّل، بالنسبة لنا، يقظة نستدرك فيها هوية ثقافية تعبُر بنا من العقل المتوسطي، والعربي إلى العقل الكوني، من غير حواجز، وتزكي فينا قومية لبنانية عبثاً تذويبُها في أيّة قومية أخرى تفرغها من كثافتها الأنطولوجية. وفيما نحن في زمن التحضير للإحتفال بالمئوية الأولى لولادة لبنان الكبير، يلهمنا "يوم الأبجدية" بــــ"رسولية" لبنان، لنستعيد شيئاً من قيامة الذاكرة، حينئذٍ قد نفهم معنى أن نكون من لبنان الكوني؛ إن "يوم الأبجدية"، لهو تكريس لإيماننا بلبنان العصي على الحتّ الزمني، الذي يتألق خريفُه أبداً من نور العصور العاجزة عن أن تلوي من إرادة تحدّت الأعاصير، إيماناً منها أن لبنان وطن سكبته أحلام الآلهة، صنعه نَفَسُ المتقين الزاهدين، وجَبَلَهُ التراب والأرز بدم الشهادة وعطر النسك.
ودعا حبيقة الحاضرين، في "يوم الأبجدية" إلى العبّ من نبوءة لبنان وقد أضحت منهلاً لكلّ شغوف وولهان بعظمة إرثه الثقافي العابر للحدود والقائم في كل مكان"، مشيرا الى انه على حدّ قول الراحل الكبير سعيد عقل، "تترّكت أنطاكية مع الزمن، وتبدّت صيدون ودمشق، وتصهينت القدس، الا ان لبنانالأبجدية ما انفكّ على الزمن يحتضن إرثها النيّر، هذا الإرثُ الذي كوّن لبنان وذاتيته وثراءه العقلي، وحَدَّه بأنه ما وراءَ تخومٍ ونطقٍ وعرقٍ ووحدة، أيِّ تاريخ كان".
وختم مؤكدًا "إن "يوم الأبجدية" لا يقتصر على احتفال أو على معرِضِ لوحةٍ اجتماعية نهنئ من خلالها بعضُنا بعضاً بمثل هذه الذكرى، إن "يوم الأبجدية" يدعو اللبنانيين بخاصة والمشرقيين بعامة، لاستعادة شيء من هوّية تآكلت وذابت في جنسيات مغايرة، فيكسر انسان الشرق الجديد في مثل هذا اليوم قمقماً حُشِرَت فيه عشيرتُه، فيتذكرُ أن المرأة الشرقية هي "إليسا" [...] وأن "أفقا"، هيكلَ الصلاة والمناجاة، هي ملتقى "ندوة الحكماء"، فيتعلّم أغنية برتنيس (Parthénis) لابنها فيتاغورس الفيلسوف وعالم الرياضيات والموسيقي والمتصوف في القرن السادس قبل المسيح : "لبناني أنت يا بني، لبناني"، ويبني الحرية نهجاً، والتغيير مفهوماً، فيمعن في تعزيز ذات تمتنع على العاديين من الناس... هذه مجرّد دعوة لصحوة ويقظة ضمير تثري الحاضر وتستشرف المستقبل".
الأمينة العامة للجنة الوطنية لليونسكو البروفسور زهيدة درويش جبور اعتبرت في كلمتها أن "للاحتفال بيوم الأبجدية معنى خاصاً، فهو احتفال بإنجاز عظيم حققه الفينيقيون منذ 1500 سنة قبل الميلاد... وهي أبجدية وُلدت منها جميع أبجديات العالم اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية. فقد استطاع الفينيقيون من خلال نشاطاتهم التجارية الواسعة وتجوالهم عبر مرافئ المتوسط أن يحملوا هذه اللغة الى شعوب العالم القديم. ولا نغالي إن قلنا إن هذا الاكتشاف قد شكل محطة في تاريخ الحضارة البشرية تضاهي بأهميتها أو تفوق الاكتشافات الأخرى..."
وأضافت ان "هوية لبنان والتي يجب أن نعمل على استعادتها وترسيخها لدى الأجيال الشابة هي أولاً وأخيراً أنه وطن للإنسان. هي هوية ترفض الانغلاق وتتنكر للاختزال والتبسيط والأحادية. يؤسفني أن سؤال الهوية لا يزال مطروحاً بعد سبعين عاماً على ولادة دولة الاستقلال التي فشلت في إرساء دعائم المواطنة الجامعة المتجاوزة للانتماءات المذهبية والطائفية والمناطقية والعائلية والتي تضمن في الوقت نفسه لهذه الانتماءات الحق في التعبير عن نفسها ضمن التنوع في إطار الوحدة".
كما لفتت الى ان"ها نحن لا نزال نتخبط في انقساماتنا، تتطلع كل جماعة منا إلى مصدر دعم يأتيها من خارج في المحيط الأصغر والأكبر، نظامنا الديمقراطي يكاد يصبح مجرد وهم أمام طغيان منطق المحاصصة الطائفية، وتقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة، وهي مفهوم يكاد يكون غائباً للأسف. ورغم ذلك فنحن متمسكون بالأمل، خاصةً وأننا على عتبة استحقاق ديمقراطي مهم، نتطلع الى إمكانية تغيير نحو الأفضل تقوده طاقات جديدة تعيد الثقة لشباب لبنان فيعودون الى وطنهم ليسهموا في النهوض به".
وختمت بالقول: "نعم بالثقافة، والعلم، والتربية، والتنشئة الوطنية نبني لبنان الذي نستحقه ويستحقنا. هذا ما نؤمن به في اللجنة الوطنية لليونسكو، وهذا ما تعمل عليه وزارة الثقافة وعلى رأسها وزير يتمتع بالموضوعية والدينامية اللازمة لتطبيق الخطة الخمسية للنهوض الثقافي التي أطلقها منذ شهرين تقريباً. لكن كل المعنيين بالشأن الثقافي مدعوون الى مواكبة هذه الخطة والى التعاون مع الوزارة لإنجاحها".
النائب نعمة الله أبي نصر ألقى كلمة، رأى فيها ان "سبع سنوات مرت، فكرست "يوم الأبجدية" محطة للتفكير لا للاستراحة؛ يوم الأبجدية "ليس عيدًا ولا عطلة، بل مناسبة للتأمل بإرثنا الحضاري، وللتخطيط لمستقبل أجيالنا الآتية. هذه السنة نحتفل بالأبجدية في بيتها، ونكرم الحرف في صرح الفلسفة والهندسة والتاريخ وسائر العلوم والآداب التي لنا فيها، كما كان لأجدادنا، باع طويل وإنجازات عظيمة. نحن الورثة الشرعيون لأم اللغات السامية. تاريخنا يحمل بالوراثة الجينات الكنعانية - الفينيقية والآرامية-السريانية، وطبعًا العربية. هكذا تكامل تراثنا وتفاعل عبر التاريخ مع بقية الحضارات، فشكل مصدر غنًى وتنوع لهويتنا الحضارية والوطنية. أجدادنا لم ينصبوا خيمة، بل حفروا الصخر وزرعوا الأرض وشيدوا الأبنية وأقاموا الملاعب الرياضية وبنوا السفن، فلا هم رحلٌ ولا هم عابرون".
وأضاف، "ان الأرض في لبنان، رغم خصوبتها، لم تكفِ يومًا حاجات وطموحات زارعيها، فكان الانتشار اللبناني الكنعاني الفينيقي على كل شطآن بلدان البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا وغيرها، حاملاً رسالة سلام إلى الشعوب، من خلال أبجدية التواصل والتخاطب لا التقوقع، من أجل التفاهم لا الصدام، فكان اللبنانيون الكنعانيون الفينيقيون رجال فكرٍ وتجارةٍ، ورسل حضارة لا تزال تأثيراتها فاعلةً في حاضر البشرية جمعاء، فصنعوا أول عولمة لغوية في التاريخ. شكلت معابد الكنعانيين مساحةً مشتركةً لشعوب العالم القديم..."
واعتبر ابي نصر ان "التاريخ يعيد نفسه، ما أشبه اليوم بالأمس، ألا نراهم في كل سنةٍ يأتون بعشرات الآلاف من كل دول العالـم، للتبرك من سيدة لبنان في حريصا، ومن ضريح القديس شربل في عنايا في إطار السياحة الدينية التي تشمل جميع الطوائف. فهل من دليلٍ أعظم من ذلك على الانفتاح واحترام الآخر وقبوله والتفاعل معه. إنه أول مشروعٍ إنساني لحوار الحضارات والثقافات والأديان. يوم الأبجدية هو مناسبةٌ للإضاءة أمام الرأي العام المحلي والعالمي، على دور لبنان كبلد رسالة، وكأرضٍ للتلاقي والحوار. وهو مناسبةٌ أيضًا لإظهار عطاءات لبنان الحضارية، المبنية على التواصل والتفاعل بين الشعوب في وجه أولئك الذين يروجون لصراع الحضارات وللحروب بين المجتمعات".
وأكد أنه "قد أصاب فخامة الرئيس العماد ميشال عون حين دعا الأمم المتحدة إلى اعتماد لبنان مركزًا لحوار الحضارات والثقافات والأديان..."
ولفت إلى أنه "تحاول اليوم وزارة الخارجية والمغتربين بشخص وزيرها المهندس جبران باسيل مع مجلس النواب وبعض المؤسسات التي تهتم بالشأن الإغترابي إعادة بعض من هذه الحقوق لأصحابها كحقهم في الاقتراع، وفي الترشح، والتمثيل في المجلس النيابي من خلال نوابٍ ينتخبون من قبلهم ومن بينهم وقد خصص لهم مقاعد خاصةً في المجلس النيابي. كما أقر المجلس مؤخرًا القانون 41/2015 شروط استعادة الجنسية للمتحدرين من أصلٍ لبناني وهي حق لهم وليست منة من أحدٍ.، تعرض هذا القانون للطعن من قبل عشرة نواب أمام المجلس الدستوري فرد الطعن. كما عمدت الوزارة مؤخرًا إلى عقد عدة مؤتمراتٍ في لبنان وخارجه من أجل جمع كلمة اللبنانيين المنتشرين وتشجيعهم للعودة إلى وطنهم وترغيبهم في استثمار طاقاتهم المادية والفكرية والعلمية والمهنية في مختلف قطاعات الاقتصاد اللبناني. لأن إعادة بناء لبنان لا تتم إلا بسواعد أبنائه مقيمين ومغتربين. لكن ذلك على أهميته لا يلغي في الوقت الحاضر أسباب الهجرة التي ما تزال قائمةً بفعل غلاء المعيشة، والنقص الكبير في فرص العمل، وارتفاع كلفة التعليم، والاستشفاء والسكن."
وفي الختام، أمل أن "تحدث هذه المناسبة، هذه السنة وفي كل سنة، هو صدمة إيجابية، تجمع أبناء هذا الوطن، مقيمين ومنتشرين، حول ما يجمعهم من قواسم تاريخية مشتركة، غير طائفية، وغير مذهبية، وغير عرقية، وغير مناطقية، لتعزز التلاحم، وتؤكد التواصل والحوار، وترسخ الانتماء والولاء، لأنه بدون الانتماء والولاء لا أوطان".
وحضر الى جانب ممثل وزير الثقافة الدكتور غطاس خوري، ممثل عن رئيس مجلس النواب نبيه بري وعن رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، ممثلين بالنائب الدكتور عاطف مجدلاني، البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، ممثلًا بالمطران بولس روحانا، رئيس الجمهورية الأسبق ميشال سليمان، قدس الأب العام الأباتي نعمة الله الهاشم الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية والرئيس الأعلى للجامعة، ممثلاً بالنائب العام الأب كرم رزق، النائب نعمة الله أبي نصر، رئيس لجنة إحياء "يوم الأبجدية"، رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة، أعضاء مجلس الجامعة، وحشد من الفعاليات الروحية والقضائية والعسكرية والحزبية والأمنية والسياسية والتربوية والبلدية والاختيارية والمدنية وممثليهم.
كما تخلل الاحتفال قصيدة للشاعر موسى زغيب وعرض فيلم وثائقي.