منذ أشهر، يرسم حزب "الكتائب" لنفسه خطاً مختلفاً ليس عن سائر الأحزاب السياسية التقليدية فحسب، بل حتى عن تاريخه منذ البدايات وحتى ما قبل استلام النائب سامي الجميل قيادته، بعدما نجح في "التمايز"، بل في تكريس نفسه بشكلٍ أو بآخر جزءاً من "المعارضة" للسلطة القائمة، وحاول أن يتموضع إلى جانب قوى التغيير المدنيّة، على تنوّعها.
جاءت الانتخابات النيابية، وكانت كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ "الكتائب" سيخوضها في وجه أحزاب السلطة بأسرها، ولو بقي وحيداً في الميدان، بل إنّه سيشترط على أيّ حزبٍ يتعاون معه "الاستقالة" من السلطة أولاً. رويداً رويداً، بدأت تظهر "الاستثناءات"، تحت عنوان "الحالات الخاصة"، من بيروت الأولى إلى زحلة، قبل أن تتحوّل إلى "القاعدة" في ربع الساعة الأخيرة، وتصل إلى دائرة الشمال الثالثة، وصيدا–جزين، وغيرها.
فما سرّ هذا "الانقلاب الكتائبيّ" في المقاربة الانتخابيّة، إن جاز التعبير؟ وما هي تداعياته على الحزب انتخابياً بالدرجة الأولى، وسياسياً بما هو أبعد من الاستحقاق بالدرجة الثانية، والأهمّ؟!
حسابات انتخابية...
لا شكّ بدايةً أنّ أحداً لا يحسد حزب "الكتائب" ورئيسه النائب سامي الجميل على الموقف الذي وُضِع فيه في هذه الانتخابات، بعد أشهرٍ حفلت بما أسماها خصومه "مزايدات شعبوية" بحثاً عن بضعة أصوات تفضيليّة إضافيّة هنا وهنالك، في ضوء ما حُكي في السرّ والعلن عن وجهات نظر مختلفة بل متباينة داخله إزاء كيفية مقاربة الانتخابات النيابية. وقد يكون السبب الأساسي في "عدم الحسد" هذا سياسة "الترهيب والترغيب" التي مورست عليه، عبر الإيحاء بأنّ كتلته النيابية، صغيرة الحجم أصلاً، ستتقلّص أكثر، بل إنّها لن تتخطى النائبين في أفضل الأحوال، خصوصاً أنّ معظم لوائحه ستعجز عن حصد الحاصل الانتخابيّ في حال مضى في خيار خوض الانتخابات وحيداً، أو بالتعاون مع من يقبل به من القوى المدنيّة غير الأساسيّة.
صحيحٌ أنّ مثل هذه الأقاويل بدأ يُسمَع صداها منذ انطلاق التحضيرات للانتخابات النيابية، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ رئيس الحزب كان "يراهن" على تغييرٍ من نوعٍ آخر، يفرض من خلاله إيقاعه الخاص، ولذلك فهو فتح خطوط وقنوات الاتصال مع جميع القوى التغييريّة إلى أوسع مدى، لعلّه ينجح في إرساء تحالف يقارع رموز السلطة في عقر دارهم، من دون أن يقفلها مع بعض أحزاب وقوى السلطة، ولكن بشروطه هو، بدليل ما كان يُقال همساً وعلناً أنّ أيّ تعاونٍ مع "القوات" سيكون مشروطاً بغسل الأخيرة يديها من الحكومة التي تُعتبَر شريكة فيها، وبالتالي فهو لن يحصل قبل استقالة وزرائها المُعلَنة والصريحة منها.
لكن، بعيداً عن رهانات الجميل، الأكيد أنّ الرياح الانتخابيّة لم تجرِ كما تشتهي سفنه. الرجل، الذي سبق أن "طرد" أحد أركان حزبه، الوزير السابق سجعان قزي، لأنّه قرّر "التمايز" والبقاء في الحكومة التي أعلن الحزب الاستقالة منها، وجد نفسه مضطراً، بطلاً أو مكرهاً، على قبول "الاستثناءات" في المعركة الانتخابية، "استثناءات" فتح أبوابها النائب نديم الجميل على اعتبار أنّ "مقعده في بيروت خط أحمر"، بالنظر إلى الرمزية التي ينطوي عليها، فضلاً عن "التداخل" الحاصل في العاصمة بين القواعد "الكتائبية" و"القواتية". إلا أنّ هذه "الاستثناءات" سرعان ما بدأت تتمدّد، من زحلة، حيث النائب إيلي ماروني يسعى إلى الحفاظ على مقعده، وصولاً إلى البترون، حيث وجد "الكتائبيون" أنّ موقع النائب سامر سعادة أكثر من مهدّد في ظلّ المنافسة الشرسة الحاصلة، واللائحة تطول.
الخسائر بالجملة!
هي الحسابات الانتخابيّة تفوّقت إذاً تحت عنوان "الحالات الخاصة" على الخطاب المدنيّ التغييريّ الذي أخذ مداه داخل "حزب الكتائب" في الأشهر الأخيرة، حالاتٌ برّرها "الكتائبيون" قبل أيام بأنّها "استثناءات" بدليل أنّها "محصورة" في دائرتين محدودتين لا أكثر، تبريرٌ من الواضح أنّه فقد صلاحيّته، خصوصاً مع "الانقلاب" الذي حصل في دائرة الشمال الثالثة، وسقط "ضحيّته" مرشحون بارزون من المجتمع المدني، أُحرِجوا في اللحظة الأخيرة فأُخرِجوا من السباق عنوةً، من دون سابق تصوّر وتصميم.
من هنا، إذا وُضع "الانقلاب الكتائبي"، إن جاز التعبير، في ميزان الربح والخسارة، فإنّ الإشكالية الأكبر التي أحدثها تمثّلت بالتباعد الذي فرضه مع المجتمع المدني، الذي سعى منذ أشهر إلى كسب ودّه، والأهمّ من ذلك، فقدان الثقة به، وعودته بالتالي إلى مكانه الطبيعي كما يرى البعض، أي في صفوف القوى التقليدية، المستعدّة لفعل أيّ شيء من أجل البقاء في السلطة. قد يقول قائل إنّ المجتمع المدني يُلام هنا قبل غيره، لأنّه أصلاً "حاصر" الحزب، حين ساواه بغيره من قوى السلطة، وعندما رفضت بعض مكوّناته التعاون معه بأيّ شكلٍ من الأشكال، بذريعة أنّه جزءٌ من السلطة كونه ممثَّلٌ في المجلس النيابي، الأمر الذي أضعف خيارات "الكتائبيين"، وجعلهم "منبوذين" من الجميع تقريباً. غير أنّ ما حصل من "انقلابٍ" في اللحظة الأخيرة على تحالفٍ كان منجزاً، ولائحة في طور التشكيل، لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام، سواء كان "الكتائب" هو المسؤول عنه، أو غيره ممّن "توسّطوا" بينه وبين "القوات"، ووضعوه أمام أمرٍ واقعٍ تحت طائلة تركه وحيداً من جديد بما يجلعه الحلقة الأضعف في المنافسة الشمالية.
لكن، أبعد من كلّ هذه التفاصيل، ثمّة من يقول إنّ "الانقلاب الكتائبي" لن يؤتي أكله، بل إنّ الحزب سيخرج من المائدة الانتخابية "كمن يخرج من المولد من دون حمص"، وهنا الطامة الأكبر التي قد تقع على رأس "الكتائب". ويعتبر هؤلاء أنّ "الكتائب" لن يكون رابحاً بتعاونه مع "القوات"، الذي لن يزيد الحجم المتوقع لكتلته النيابية، بل هو سيساهم في رفع الحواصل الانتخابية للوائحها، بما يمهّد لفوز مرشحيها على حساب مرشحيه، نتيجة تعقيدات الصوت التفضيليّ. وخير دليل على ذلك إصرار "القوات" على إبقاء مرشحها في البترون فادي سعد إلى جانب مرشح "الكتائب" النائب سامر سعادة، ما سيفتح الباب أمام "مواجهة" من الطراز الثقيل داخل اللائحة، في ظلّ قناعةٍ بأنّ فوز المرشحين لن يكون ممكناً، في ضوء المنافسة على المقعدين من مرشحين أقوياء، يتصدّرهم رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل، الذي تشير المعطيات إلى أن مقعده "مضمون"، إضافة إلى النائب بطرس حرب وغيره.
أين المبادئ؟
على مدى أشهر، نجح "حزب الكتائب"، بشهادة الأقربين والأبعدين، في تكريس "تمايزه"، وتحوّل رئيسه النائب سامي الجميل إلى "نموذج يحتذى" بالنسبة للكثير من الشباب التوّاق نحو التغيير. ولعلّ الخطوات التي قام بها، وإن وصفها بعض المتضرّرين بـ"المزايدات"، نجحت في تحقيق ذلك، بدءاً من استقالته من الحكومة، إلى موقفه الشهير من الضرائب، وخطاباته الرنّانة.
بيد أنّ الخشية اليوم من أن تطيح الانتخابات النيابية ليس فقط بالكتلة الكتائبية كما هي، بل حتى بالمبادئ التي أرساها الجميل، والذي قد لا يكون تعاونه مع "القوات" الضربة القاصمة لها، بقدر خياراته في مناطق أخرى، من تنصّله من التحالف مع النائب ميشال المر في المتن، إلى تعاونه مع النائبين الخارجين من عباءة "التيار" جيلبرت زوين ويوسف خليل في كسروان، ما طرح أكثر من علامة استفهام...