نحو عشرة سجلّات نفوس في صيدا، تضم أكثر من 300 لبناني مشكوك في لبنانيتهم! منذ عام 2000 يحاول هؤلاء الحصول على «اعتراف» بوجودهم رغم أنهم يحملون هويات لبنانية. تقول الرواية إن المُديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية «اكتشفت»، بعد نحو ثلاثين عاماً، أن الأحكام القضائية التي تُثبت حيازة الأجداد على الجنسية غير مُسجّلة في هيئة القضايا. فيما يقول العارفون إن كثيراً من الإثباتات والسجلات القانونية أُتلفت بفعل الحريق الذي طال السراي الحكومي في صيدا، مطلع الحرب الأهلية عام 1975. بين الروايتين، ثمّة من يُثير شبهة الدوافع الانتخابية التي ساهمت في «يقظة» المُديرية العامة، ويتساءل: كيف يُجمّد سجلّ من يملك وثيقة ولادة لبنانية؟
يُقدّر أعداد المُتضررين من تجميد السجلّات بأكثر من 300 شخص. بحسب القانون، يُعدّ هؤلاء «غير موجودين» نظرا الى افتقارهم الى أوراق ثبوتية بديلة عن سجلاتهم في «الداخلية». ويؤدي ذلك إلى مشاكل كثيرة في ما يتعلق بقضايا الارث والأحوال الشخصية. ففي حالات كثيرة، لم يتمكن من جُمّدت سجلاتهم من الاستحصال على شهادات وفاة ما يحول دون إجراء حصر إرث، فيما يعجز آخرون عن إتمام إجراءات الطلاق أو تسجيل الزواج واستخراج وثائق ولادة لأطفالهم!
عام 2000، توقّفت المُديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية والبلديات عن إعطاء بيانات قيود لعدد من أبناء العائلات المُسجّلة في صيدا، بحجّة التشكيك في جنسيّتهم اللبنانية. قبل هذا التاريخ، كان هؤلاء يحصلون على إخراجات قيد وجوازات سفر بشكل دوري و«طبيعي»، ويمارسون «لبنانيتهم» بشكل كامل. منهم من أدّى خدمة العلَم أو انخرط في السلك العسكري أو شغل وظائف في «الدولة».
تقول رواية هؤلاء إن المديرة العامة السابقة للاحوال الشخصية، سوزان خوري، اتخّذت منتصف عام 2000 قراراً بـ«تجميد» سجلات عدد من عائلات صيدا ووضع إشارات إحترازية على قيودهم وقيود أفراد عائلاتهم، وعدم السماح لهم بالاستحصال على القيود الافرادية والعائلية. كما عمدت إلى سحب هذه السجلات من نفوس دائرة صيدا ولم تعمد الى نسخها في السجلّات الأساسية في وزارة الداخلية، بحجّة عدم قانونية الأحكام القضائية التي حازوا بموجبها الجنسية اللبنانية.
إثباتات هالكة!
بحسب مُختار صيدا ابراهيم عنتر، تقدّمت بعض العائلات المُقيمة في صيدا عام 1972 بدعاوى قضائية لاثبات حصولها على الجنسية اللبنانية، «حينها، حصلت هذه العائلات على قرارات قضائية تُثبت حيازتها الجنسية. ولكن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً، تبيّن للمديرية أن هذه الأحكام القضائية غير مُسجّلة في هيئة القضايا، ما يعني غياب السند القانوني الذي يُثبت حصول هؤلاء على الجنسية». وعليه، اشترطت المُديرية العامة للأحوال الشخصية إبراز مُستندات قانونية لـ «تبرير» إعطاء بيانات قيد ولـ«تحريك» سجلّاتهم. إلّا أنه يصعب تحقيق هذا الشرط، بحسب المختار محمد بعاصيري الذي يلفت الى أن الكثير من الأوراق والمُستندات الكفيلة بإثبات جنسية هؤلاء، أُتلفت عام 1975 بفعل أحداث الحرب الأهلية التي أدّت الى احتراق السراي في صيدا.
سجلّات غير «مُسجّلة»!
بحسب مصادر في دائرة نفوس لبنان الجنوبي، هناك نحو عشرة سجّلات مُجمّدة، فيما تُشير تقديرات مخاتير المدينة الى أن عدد أبناء هذه السجّلات يتجاوز الثلاثمئة. وتؤكد المعطيات أن عدداً كبيراً من هؤلاء حائزون على وثائق ولادة تُفيد بجنسيتهم اللبنانية، فضلا عن أنهم كانوا يحصلون سنوياً على إخراجات قيد وجوازات سفر وهويات. فعلى أي أساس كان يتم إصدار هذه الأوراق الثبوتية إذا؟
تقول المصادر إنّ أسماء أصحاب هذه السجّلات مُدوّنة في لوائح تم الاستناد اليها لاعطائهم الاوراق الثبوتية، «إلّا أنّ الخلل يكمن بأنّ هذه اللوائح غير مسجلة في السجّلات الرسمية». وتشير إلى أن المُديرية العامة للاحوال الشخصية أحالت هذه الملفات الى الأمن العام اللبناني منذ سنوات، وهذه التحقيقات باتت في حوزة القضاء اللبناني، «ولا نزال في انتظار قرار القضاء».
المصادر نفسها أكّدت أنّ دائرة نفوس لبنان الجنوبي ووزارة الداخلية والبلديات ليستا الجهة المُخوّلة تدوين هذه القيود في السجّلات، وأن الأمر يحتاج الى قرار قضائي كي يتحقق. فيما وعد المدير العام للأحوال الشخصية العميد الياس خوري، في اتصال مع «الأخبار»، بمُتابعة هذا الملف ودراسته «بشكل دقيق».
أسباب انتخابية؟
اللافت أن قرار المُديرية تجميد هذه السجّلات جاء بعد مُضي ثلاثين عاماً. ويعزو متابعون للملف ذلك إلى «أسباب انتخابية، وبايعاز من الرئيس الراحل رفيق الحريري، بعد خسارته في الانتخابات البلدية في صيدا عام 1998. فعشية الانتخابات النيابية عام 2000 صدر القرار بتجميد القيود التي تضمّ غالبية من أبناء الطائفة الشيعية ممن يصوّتون لخصومه السياسيين». ويلفت هؤلاء إلى أن وزير الداخلية السابق ميشال المُرّ وجّه بتاريخ 27/6/2000، مُذكّرة تنفيذية الى مُديرية الأحوال الشخصية (رقم 3337/2010) يطلب فيها معاودة إعطاء بيانات قيد إفرادية وعائلية لقيود سجلات نفوس صيدا التي تم تجميدها «كما كان معمولا به منذ تاريخ تسجيل هذه القيود». وبالفعل أُعيد «تحريك» هذه السجّلات لفترة وجيزة، «إلّا أن المديرية العامة أعادت تجميدها مع اقتراب موعد الانتخابات النيابية في آب 2000».
مهدي منصور، أحد المتضررين من تجميد السجلّات، أكد «أننا طالبنا المديرة العامة السابقة سوزان الخوري بإبراز المُستندات التي ارتكزت إليها كي تتخذ إجراء التجميد، إلا أنه لم يتم إطلاعنا على أي قرار قضائي أو مُستند يُبيّن الذريعة التي قضت باتخاذ قرار كهذا». ويُضيف: «كلّ ما أُخبرنا به، أن علينا إبراز القرارات القضائية التي أدّت الى منح أجدادنا الجنسية، رغم معرفة المعنيين في الداخلية بأن هذه القرارات أُتلفت في الحريق الذي طال السراي خلال الحرب». وأشار إلى أن هناك عائلات من الطائفة السنيّة «مُتضرّرة من قرار التجميد، وبالتالي فإنّ القضية وطنية بامتياز ولا تتعلّق فقط بالعائلات الشيعية في المدينة»، مُطالبا بحلّ جذري لهذه القضية الشائكة التي تقضي بـ«شطبنا من الوجود رغم حيازاتنا سجلات عدلية وهويات وجوازات سفر».