وصلتني البارحة من على موقع التواصل الإجتماعي صورة أرجعتني بالسنين إلى زمن الطفولة والمراهقة، فشعرت بالحياة تدبُّ فيَّ من جديد. هذه الصورة هي لكنيسة ضيعتي في أسبوع الآلام، حيثُ يبدو يسوع معلّقاً على الصليب من حيث دعاني إلى الكهنوت. فَعند أقدام هذا الصليب شعرتُ بقوَّة الحُبّ المتدفقة من قلب المصلوب، تدعوني وتُنشدُ لي نشيد الحُب: "أُنشِدُ لحبيبي نشيد محبوبي في كرمه"(أش15). نعم، فهذا المُعَلَّقُ أمامي على الصليب لَم يكن أبداً في نظري جثَّة هامدة، بل شخصاً حيّاً يُخاطبني، وهو قويٌّ قوّة المحبّة، وقادرٌ على بَذلِ ذاته من أجلي لكي لا أموت أنا بخطاياي. وعلى الرغم من منظر المصلوب "الذي لا صورة له ولا بهاء"(أش522)، كنتُ أرى أمامي ملِكاًعرشه الملوكي، خشبة الصليب، وتاجه الشوك وصولجانه المسامير!.
"لاصورة له ولا بهاء ولا منظَر فنشتهيَه"(أش522)، بهذه الكلمات وصف آشعيا النبي يسوع المصلوب. هو بشعٌ لدرجةِ أنَّ" الوجه يُستَرُ عنه"(أش523). ولكن هذه البشاعة لَم تكن منه بل مِنّا، فالربّ "ألقى عليه إثمَ كُلِّنا"(أش536)، وبشاعتنا نحن الخطأة. فلننظرمن حولنا: كم من البشاعة في العالم بسبب الشرالذي نرتكبه نحن البشر؟: "حروبٌ، وعنفٌ، وصراعاتٌ اقتصادية تُصيب الأكثر ضعفاً، وجَشعُ للمال، الذي لا يستطيع أحد أن يَحمله معه بعد الموت، وللسلطة، وفساد، وانقسامات، وجرائم ضد الحياة الإنسانية وضد الخليقة! إضافة إلى خطايانا الشخصية، وغياب المحبة والاحترام تجاه الله، وتجاه القريب وتجاه الخليقة كلها"(البابا فرنسيس). يقول آشعيا النبيّ:"إنّه لقد حمل عاهاتنا وأوجاعنا"(أش524). حمل على ذاته هذا الشر الذي نرتكبه كُلُّنا، وهذه النجاسة التي نقوم بها، وهذه البشاعة، وخطيئةالعالم، وخطيئتي أنا، لا بل موتي أيضاً. أخذ ما لنا وأعطانا ما له: طبيعتنا الخاطئة مقابل طبيعتة الإلهية، لكي لا نموت. تبادل غير عادل وغير منطقي، ولكن مَن قال بأنَّ المحبّة منطقية، وبأنّ منطق الله هو منطق البشر؟!.
نحنُ نَقتُل لكي نحيا، أمّا يسوع فيُضحي بنفسه لكي نحيا(متى2750). نحن نَحرم الآخرين من خبزهم اليومي لكي لا نموت، أمّا هو فيُعطينا جسده خُبزاً لكي لا نموت(متى2626) . نحنُ نبحثُ عن الثروات ونحرم الآخرين حتّى من فتات الخبز المُتساقط من على موائدنا(لو1621)، أمّا هو فيبحثُ عنّا نحن ثروته ويرُدّ لنا كرامتنا(يو151-7)، ويُفيض علينا الخيرات. نحنُ نُعاشر الأقوياء لكي نقوى على الضّعفاء، أمّا هو فيُعاشر الفقراء والخطأة لكي يُغنيهم بفقره، فيَقوَوا على مِحَنهم وخطاياهم(متى913). نحنُ، نعم نحنُ، نُرَحِّلُ حقدنا معنا إلى القبر ونورثه لأبنائنا، أمّا هو فيغفر لنا لكي لا نبقى أسرى نتَن القبر(لو2334)، ويورثنا المحبّة وصيّةً ذهبيّة(متى2227-39). نحنُ نعملُ على الخربطة والحروب والتقسيم والعنف والفساد والظُلم، أمّا هو فرَجُلَ سلام، يجمع ما فرّقته أحقادنا وأطماعنا، ويُنسّق ويُساوي ما دمّرته حروبنا(يو1427).
إنَّ عيش أسبوع الآلام هو الدخول في هذا المنطق، واتباع يسوع في منطق اللامنطق؛ منطق الصليب، منطق الحبّ وهِبَة الذات التي لا تعرف منطقاً ولا حدوداً في إعطاء الحياة. هذا ما اكتشفه بطرس بعد موت يسوع وقيامته. قال بطرس ليسوع أتبعك إلى حيث تريد ولكنّه، في الواقع، كان يستبعد منطق الصليب. إن مشاهد عديدة في الإنجيل كانت تُظهر بطرس في موقف الثائرعلى كلِّ فعلٍ كان يُهدِّد حياة يسوع، حتى على يسوع نفسه عندما كان يأتي على ذكر آلامه وموته وقيامته. يقول لنا الإنجيل: "وانفرد به بطرس وأخذ يعاتبه"(مر832)،لأن ما قاله يسوع لا يتناسب مع الفكرة التي كوّنها التلميذ عن المسيح. انتظر بطرس مسيحاً قويّاً قوَّة ملوك الأرض، فإذا بِه أمام مسيح سيموت، فالتفت يسوع إلى التلاميذ وتوجه إلى بطرس بأحد أقسى التعابيرالتي نجدها في الأناجيل: "اذهب عني يا شيطان،لأن أفكارك ليست أفكار الله،بل أفكار البشر"(مر8 33). لم يستطع بُطرس أن يتمنطق بمنطق يسوع إلا بعد موت هذا الأخير وقيامته.
فليُعطنا الرب المصلوب الشجاعة لكي نتزين بمنطق الصليب، ونواصل إعلان محبة الله العظيمة في العالم. أيّها المصلوبُ حُبّاً بِنا، إرحمنا.