انشغل المراقبون في البحث عن الظروف والأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب للإعلان عن انسحاب القوات الأميركية المتمركزة في سورية وعودتها إلى أميركا، مضيفاً: (فلندع الآخرين يتولون الاهتمام بسورية لأننا نريد أن نكون هنا في بلدنا أميركا)، وهذا ما شكل مفاجأة من العيار الثقيل التبس معها تفسير حقيقة موقف ترامب من هذا الإعلان وخصوصاً بعدما تبع إعلان الانسحاب من سورية ما صدر عن الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأنها تنفي علمها بما صرح به رئيس الولايات المتحدة.
وإذا ما أخذنا المتغيرات الأخيرة في مراكز القوى، التي تمثلت بإقالة وزير الخارجية الأميركية ريكس تيليرسون فور اتهامه روسيا بتسميم العميل الروسي سكيبار وتعيين مايك بامبيو بديلاً منه، إضافة إلى إقالة مستشار الأمن القومي الجنرال هيربيرت ماكماستر المندفع نحو مواجهة روسيا في المنطقة وتعيين جون بولتون بديلاً منه، لأدركنا أن الرئيس الأميركي يستعد لمواجهة حتمية مع الحكومة العميقة في أميركا التي بنيت على أساس العداء لروسيا، وذلك بعد استكمال المتغيرات المنتظرة بإقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس (الكلب المسعور) كما وصفه ترامب، وأن الرئيس الأميركي يسعى إلى إعادة ترتيب الهيكلية في إدارته على أسس الولاء المطلق لترامب.
وعلى الرغم من الأزمة الدبلوماسية بين روسيا وأميركا والغرب فمن الملاحظ أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وترامب يحافظان على استمرار الخطوط المفتوحة بينهما بشكل إيجابي ومنفصل عما تسعى إليه الحكومة العميقة في أميركا.
الملاحظ أيضاً أن الهم الأساسي لترامب هو تحصين الداخل الأميركي بوساطة استثمار أموال الخليج النفطي بعقود بيع الأسلحة الأميركية لدول الخليج أو بوساطة السطو على تلك الأموال، لذلك أدرك ترامب أن الانخراط في الحرب السورية ودعم الأكراد لعبة خاسرة عاجلاً أم آجلاً، أما التركيز على خطر التوسع الإيراني والدفع باتجاه الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران وتشجيع التعاون الأمني بين دول الخليج النفطي وبين إسرائيل بحجة مواجهة إيران، فهو أمر مربح ويدغدغ رغبات حكام الخليج النفطي ويؤمن لإسرائيل اختراقاً واسعاً في الجسد العربي، كما أن هذا الأمر يؤمن لترامب الاستيلاء على ما بقي من مدخرات ونفط دول الخليج لمصلحة أميركا.
إن ترجمة فكرة الانسحاب الأميركي من سورية تتطلب اتفاقاً أميركياً تركياً ولو كان من تحت الطاوله لأنه يعزز دور تركيا في حربها ضد الأكراد في سورية، ما يعني تحفيزاً أميركياً لتركيا على منافسة إيران في سورية بغية استنزاف الإثنين معاً، وهذا ما دفع السعودية والإمارات للقبول وعدم الاعتراض على أن يشمل ذلك تسليماً بدور روسيا وإطلاق يدها في سورية، ظناً من ترامب والموالين له أن روسيا وحدها هي من يمتلك القدرة على الحد من طموح كل من إيران وتركيا في سورية.
فرنسا عرضت إرسال قوات فرنسية بتنسيق مع ترامب في محاولة للحلول محل الأميركي وحفظ الحصة الأميركية الفرنسية من مصادر الطاقة السورية في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، لكن تركيا أردوغان سارعت للإعلان عن رفضها لأي دور فرنسي في تلك المنطقة ما نسف العرض الفرنسي.
الموقف التركي في محاربة الأكراد في الشمال السوري بات أقوى من ذي قبل، أما الكرد فإن التاريخ الرافض لكيانهم المصطنع أطل برأسه ليتركوا فريسة نفوذ القوى الكبرى.
لا بد لنا من تسليط الضوء على نقاط القوة ونقاط الضعف التي تمكّن ترامب من تحقيق ما أعلنه بانسحاب قواته من سورية.
إن تعزيز التنسيق والتعاون بين روسيا وتركيا لا بد أن يفضي إلى اتصال وتعاون بين سورية وتركيا ولو بعد حين، الأمر الذي سيمنح ترامب القوة في تنفيذ ما أعلن عنه وتجنيب المنطقة ويلات حرب مدمرة لن تكون تركيا في منأى عنها، أما إذا كان طموح تركيا يتجاوز روسيا وسورية فإننا نستبشر بإضعاف ترامب لمصلحة نيات الحرب التي تريدها الحكومة العميقة في أميركا.
وبانتظار تحديد الجهة الأقوى في أميركا ترامب، أو الحكومة العميقة تبقى المنطقة متأرجحة بين الخراب أو الانسحاب الأميركي.
إن مفاجأة ترامب لم تكن الوحيدة بل إنها جاءت متزامنة مع مفاجأة من نوع آخر وهي اعتراف واضح وصريح من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأن الرئيس بشار الأسد باقٍ، وأردف قائلاً: المهم هو مواجهة التوسع الإيراني، وفي إشارة إلى التركيز السعودي على إيران، كما أضاف ولي العهد السعودي أنه مع بقاء القوات الأميركية في سورية لأنها تشكل الحاجز الأخير بوجه التوسع الإيراني.
وفي قراءة أولية لمجريات الأحداث يتضح لنا أن تغييراً في وجهة سهم المواجهة قد جرى نقله من سورية ليتجه هذه المرة نحو إيران مباشرة وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار قيام الطائرات الإسرائيلية من نوع الشبح (ستيلث) F35 التي تمتاز بقدرتها على التخفي عن الرادارات الإيرانية بالتحليق فوق مناطق المفاعلات النووية الإيرانية.
يبقى أن نشير إلى طلب العدو الإسرائيلي بعودة قوات الأمم المتحدة الأوندوف للانتشار على خط الفصل بين سورية وفلسطين، ما يعني أن إسرائيل أدركت قطع ذراعها في سورية كما قطعت أذرع أميركا والسعودية وقطر والإمارات في سورية وخصوصاً بعد نجاح الجيش العربي السوري في تحرير كامل بلدات ومزارع الغوطة الشرقية من فصائل الإرهاب.
بقراءة معمقة، فإن ما جاء على لسان ترامب وابن سلمان فإنه يعبر عن انهزام مشروع تفكيك سورية وتغيير نظامها وهويتها ورئيسها، وهو اعتراف واضح وصريح لا لبس فيه بانتصار الجمهورية العربية السورية على مؤامرة كونية حاكتها الدول نفسها التي اعترفت بانتصارها، وأن التاريخ دوّن في صفحاته مجد انتصار الجمهورية العربية السورية الذي سلّح الأجيال العربية القادمة بالإيمان المطلق، أن سورية قلب العروبة بانتصارها استطاعت قلب ظهر المجن.