قد يكون حضور المجتمع المدني البارز، وربما الفاعل والمؤثّر، في الانتخابات النيابية في العام 2018 من أكثر الأمور التي تميّزها عن كلّ ما سبقها من انتخاباتٍ واستحقاقاتٍ في تاريخ لبنان الحديث، إلى جانب طبيعة القانون الانتخابي الذي يعتمد المبدأ النسبيّ للمرّة الأولى في تاريخ لبنان.
وقد يكون مجرّد خوض مكوّنات المجتمع المدني المختلفة، فرادى أو جماعات، للانتخابات في معظم الدوائر الانتخابيّة، مؤشراً جدياً على وجود رغبةٍ حقيقيّة بالتغيير لدى فئة واسعة من الشباب اللبناني، الذي ملّ من طبقةٍ سياسيّة تتقن فنون الكلام على أنواعه، وتعجز عن ترجمته بالأفعال، أو أنّها تتعمّد ذلك.
ولكن، أبعد من القراءة في المعاني والدلالات، وبعيداً عن نظريّة المؤامرة التي يلجأ إليها بعض المجتمع المدني تماماً كما السياسيّ كلما تعرّض لنقدٍ من هنا أو من هنالك، أيّ حظوظٍ تمتلكها المجموعات المدنيّة في هذه الانتخابات؟ وهل صحيحٌ أنّها سقطت في الامتحان قبل الأوان، وللأسباب نفسها التي سقطت فيها سابقاً وأسقطت حراكها الشعبيّ غير المسبوق؟!
معوّقات بالجملة...
لا شكّ بدايةً أنّ عين الكثير من مكوّنات المجتمع المدني كانت على الانتخابات النيابية منذ فترةٍ طويلة، وخصوصاً بعد صعود نجمها في السنوات القليلة الماضية، ولا سيما بعد الحراك الشعبيّ الذي تصدّر الواجهة بعد أزمة النفايات الشهيرة، والتعاطف الشعبي الذي استطاعت حصده من مختلف فئات المجتمع، وحتى من بعض المحازبين، الذين وجدوا أنفسهم وجدانياً وعاطفياً أقرب إلى المطالب المحقة والمشروعة التي رفعها الحراك، منهم إلى سياسات التخوين التي لجأت إليها السلطة، وصولاً إلى قمع الشباب، من دون البحث الجدّي بحلّ للأزمات المتراكمة.
إلا أنّ الصحيح أيضاً، وبعيداً عن نظرية المؤامرة، أنّ عين السلطة كانت على "تحجيم" المجتمع المدني بشكلٍ أو بآخر، منذ الحراك الشعبي، وقد نجحت في ذلك إلى حدٍ بعيد، على الرغم من الإخفاقات الأولى، وساعدها في ذلك تشتّت الكثير من المجموعات المدنية، وسقوط بعضها في فخّ الاستعراض والنجوميّة، ما أفقدها المشروعية التي انبثقت منها أساساً. هكذا، تحالفت قوى السلطة، المختلفة على كلّ شيء، على ضرب المجتمع المدني، خشية أن ينافسها على "جنّة السلطة" التي تتنعّم بها، ووجدت في تشعّب مجموعاته مادة مثاليّة "غبّ الطلب" لتحقيق غرضها، وكان لها ما أرادت. سقطت تجربة الحراك من دون تحقيق غاياتها، بعد انقسام المجموعات فيما بينها، ووُضِعت بعض هذه المجموعات في قفص الاتهام بدل أن يكون العكس هو الأمر المنطقيّ والبديهيّ، فتكرّست الصورة الذهنية في نظر الكثير من المواطنين أنّ تحركات هؤلاء لم تكن "عفويّة"، وأنّ هناك من أسرّ في أذنهم ليتحرّكوا، تماماً كما أسرّ في أذنهم في النهاية للانكفاء.
ولا شكّ أنّ أساليب السلطة هذه في مواجهة المجتمع المدني تصاعدت مع اقتراب الانتخابات النيابية، ولعلّ القانون الانتخابي بحدّ ذاته يحمل في عمقه أوج هذه المواجهة، على الرغم من كونه نسبياً في الظاهر، نسبيّة لا يرى فيها البعض سوى أكثرية مقنّعة، تسهم تعقيدات القانون في تكريسها، من الصوت التفضيلي إلى الحاصل الانتخابي، والأهم من ذلك التقسيمات الجغرافية والطائفية للدوائر الانتخابية البعيدة عن كلّ معايير التمثيل العادل. أكثر من ذلك، ثمّة من يقول إنّ السلطة فصّلت هذا القانون على قياسها، بل إنّ بعض أحزابها، المتناقضة فيما بينها، متحالفة علناً أو ضمنياً في هذه الانتخابات، فقط لمنع المجتمع المدني من خرقها بصورةٍ أو بأخرى.
مشكلة في المقاربة؟
انطلاقاً ممّا سبق، يمكن القول ببساطة جديدة إنّ الأحزاب التقليدية لا تريد أن يقاسمها المجتمع المدني "جنّة السلطة"، وهي فعلت كلّ ما تستطيع قبل الانتخابات لتحقيق هذه الغاية. ولكن ماذا فعل المجتمع المدني في المقابل؟ وكيف واجه؟
بعيداً عن تكتيكات السلطة وأساليبها، لا شكّ أنّ العوامل التي كان يمكن أن تشكّل للمجتمع المدني، لو عرف كيف يتلقفها، "فرصة ذهبية" لتحقيق "المعجزة" التي طال انتظارها، وبالتالي الدخول إلى البرلمان بكتلةٍ قادرةٍ، متجانسةٍ، ولو كانت محدودة العدد بشكلٍ أو بآخر، أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى. فالانتخابات المنتظرة هي الأولى منذ عقدٍ من الزمن تقريباً، وفئة الشباب قد تكون الأكثر حماساً لها، خصوصاً أنّ معظم الشباب لم ينتخبوا سابقاً، على اعتبار أنّ كلّ من بلغوا سنّ الاقتراع منذ العام 2009، لم يقولوا كلمتهم حتى اليوم.
أكثر من ذلك، كان هذا المجتمع خارجاً من تجربة مدنيّة ناجحة نسبياً في الانتخابات البلدية الأخيرة، كان بمقدوره أن يعيد رسمها أو صياغتها اليوم، هي تجربة "بيروت مدينتي"، رغم كلّ ما أحاط بها من غموضٍ والتباس بنظر البعض، تجربة فعلت فعلها في قلب العاصمة، وحقّقت أرقاماً عالية، كان من شأنها أن تخرق قوى السلطة في عقر دارها، فيما لو كان النظام الانتخابي نسبياً كما هو اليوم. وإذا كانت هذه التجربة أثبتت شيئاً، فهو أنّ هذه المجموعات قادرة على فعل الكثير، إذا اتحدت بالحدّ الأدنى المُتاح، وعرفت كيف تدير المعركة، أمرٌ "يترحّم" عليها الكثير من الناشطين في الانتخابات النيابية اليوم، ولو كابروا على الاعتراف بذلك.
ولعلّ هذه النقطة بالتحديد تشكّل بيت القصيد في مقاربة المجتمع المدني للانتخابات. فصحيحٌ أنّ المجتمع المدني متنوّع، وصحيحٌ أنّ توحيد قواه أمرٌ ليس بيسير، وصحيح أنّ من حقّه أن يخوض المعركة الانتخابيّة بالشكل الذي يرغب به، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ التشعّب الحاصل يضرّه وينفع القوى التي يسعى لخرقها. والأصحّ من هذا وذاك، أنّ من غير المنطقي أن نشهد لوائح "مدنية" تتنافس وتتصارع فيما بينها في الكثير من الدوائر "الحسّاسة"، حتى أنّ هذه اللوائح تعدّت في بعض الأماكن اللائحتين واللوائح الثلاث، وهذا الأمر لن يؤذي قوى السلطة، بقدر ما سيؤذي هذه القوى نفسها، التي ستتسبّب بتشتّت الأصوات فيما بينها، وستعجز عن الوصول إلى حاصل انتخابي، وهو بالتحديد ما تريده قوى السلطة، موالاةً ومعارضة.
إعادة نظر مطلوبة
تقول بعض مجموعات المجتمع المدني إنّ مجرّد نجاحها في تشكيل لوائح متجانسة على امتداد كل لبنان تحت عنوان "كلنا وطني" دليلٌ على وجود تضحيات قُدّمت، وعلى أنّ هذه القوى جادة في المنافسة، ومصمّمة على تحقيق النتائج المرجوّة. قد يكون ذلك صحيحاً، إلا أنّه ليس كافياً، في ضوء تكتّل المعوّقات التي زرعتها قوى السلطة أساساً على طريقها، غير المفروشة بالورود.
في مطلق الأحوال، من المبكر الحكم على تجربة المجتمع المدني اليوم، قبل شهرٍ من موعد الانتخابات، ومن غير الواقعيّ القول إذا ما كانت هذه القوى سقطت في الامتحان أم لم تفعل. لكنّ المطلوب أن تعيد هذه القوى النظر في مقاربتها العامة، بعيداً عن رفع الأسقف كما هو حاصلٌ اليوم، حتى لا تتعرّض لخيبةٍ جديدةٍ تؤدّي لانتكاسة كما حصل مع الحراك المدني سابقاً، فالمطلوب البناء على التجربة أياً كانت نتائجها، وأخذ العبر لتطويرها مستقبلاً، وهذا الأساس...