هل الانتخابات اللبنانية داخلية صرفة هذه المرة؟. تعوّد اللبنانيون على تدخلات عربية وغربية، أو على الأقل اهتمام خارجي بإنتخاباتهم النيابية. تبدأ التدخلات بالتمنيات، مروراً بتقريب المسافات بين القوى، وتوجيه الخطاب السياسي، وصولاً الى الدعم المالي لأفرقاء محدّدين.

لم يغب الاهتمام منذ نشوء دولة لبنان قبل الاستقلال. تغيّر اللاعبون الداخليون، وتبدّلت موازين القوى الاقليمية والدولية، لكن التدخلات استمرت بإتجاهاتها المتنوعة. كانت فرنسا وبريطانيا اللاعبتين الاساسيتين، قبل أن تدخل الى اللعبة اللبنانية: ​الولايات المتحدة الأميركية​ و​الاتحاد السوفياتي​، ومصر و​السعودية​ و​ايران​ و​سوريا​ والعراق وليبيا والجزائر وعواصم أخرى لعبت دوراً نسبياً في مراحل مختلفة، تبعاً للأحلاف الدولية.

كان هدف التدخل حسم الكفة اللبنانية لصالح سياسات تتسابق في العالم. لم يكن لبنان ذو فاعلية عسكرية ولا استراتيجية. كان ساحة لتصفية الحسابات أو موطئ قدم سياسية لعواصم ترى في بيروت مكاناً لإدارة اللعبة الاقليمية.

يحكي تاريخ لبنان الحديث عن حجم التدخلات في تركيب قوانين الانتخابات ودفع النتائج لصالح قوى على حساب أخرى. اللبنانيون لا زالوا يتذكرون دور اللواء السوري ​غازي كنعان​ في التحكّم بمرحلة لبنانية، فسُمّي ​قانون الانتخابات​ بإسمه الى يومنا هذا. كان يركّب الدوائر تبعاً لمصالح سياسيين محددين. لكن اللعبة اختلفت هذه المرة.

بدأت حكاية الاستقلال الانتخابي منذ وضع قانون جديد يقوم على النسبية الجزئية. لم تتدخل أي عاصمة. كانت تستطلع الدول عبر سفرائها عن بعد، لمعرفة نوعية القانون ومدى عصريته، وبالتالي استنتاج من سيحمل من نواب وكتل، وموازين قوة الى المجلس. لم تتدخل تلك العواصم المهتمة لاعتبارات عدة. كانت تقوم بالدعم المعنوي والحث على اجراء انتخابات لمنع التمديد. لكن سفارات عدة بدأت بجمع المعلومات والاحصاءات حول نتائج الانتخابات المحتملة. تتحدث المعلومات عن عقد سفراء وقناصل اجتماعات مع خبراء ومحللين سياسيين، والاستماع الى حلفاء تاريخيين، لاستطلاع وضع الانتخابات اللبنانية، وافادة عواصم بلادهم بالمشهد اللبناني المرتقب. لم تتدخل تلك العواصم بتركيب التحالفات. تركت القوى اللبنانية تصيغ تحالفاتها كما تشاء، رغم طلب قوى سياسية منها الضغط على آخرين لتوحيد الجهود في بعض الدوائر.

حاولت بعض القوى الداخلية استحضار الدعم المالي تحديداً، عبر حث السفارات على المؤازرة. جرت لقاءات مقرونة بتقارير تفيد وجوب التدخل وتأمين الحوافز للحلفاء.

لكن اهتمامات الدول بساحات أخرى منعت تسليط الضوء حتى الآن على الاستحقاق اللبناني. الولايات المتحدة الأميركية تعطي الاولوية لمساحات تؤمن لها مورداً مالياً. لا يهم ​البيت الأبيض​ لبنان، ولا سوريا، بقدر ما يهمه تأمين الأموال من الدول القادرة، فطرح سحب الجنود الأميركيين من ​الدول العربية​، لحث ​الخليج​ على دفع أموال طائلة لواشنطن لقاء الحماية والرعاية.

بالنسبة للروس، لم يتدخلوا في الشأن اللبناني، وصبّوا كل اهتماماتهم بالساحة السورية، لمعرفتهم أن الانتخابات اللبنانية لا تغيّر موازين القوى في بلد تقوم سياسته على اساس التوافق بين مكونات طائفية. لا يهم بالنسبة الى موسكو ازدياد عدد كتلة على حساب أخرى. هم يعرفون ان لبنان محكوم بالتوافق. هذا ما يكرره سفير روسيا في بيروت الكسندر زاسبيكن.

بالنسبة الى فرنسا، الاهتمام معنوي. لا أكثر ولا أقل. في حين تغيب باقي العواصم، ويكتفي دورها على قراءة تقارير تعدها سفاراتها في بيروت، للعلم والخبر.

وحدها الدول العربية تهتم بلبنان. سوريا تراقب عن كثب وتثق بقدرة حلفائها على تأمين التوازن في لبنان. لم يعد لدمشق قدرة على توجيه او تحديد سياسات تفصيلية لبنانية. هي مشغولة بساحتها منذ عام2011. مصر مشغولة بدائرتها الوطنية. لا دور للعراق، ولا لقطر، ولا عُمان، ولا الاردن. فقط الاهتمام السعودي-الاماراتي يتظهّر من خلال زيارات سفيري البلدين في لبنان. لا يُعرف مدى حجم الدعم الذي يمكن أن تقدّمه الدولتان لحلفائهما في لبنان. تترقب القوى حجم الدعم في ظل أسئلة وافتراضات: هل الهدف كسر "​حزب الله​"؟ هل يستطيعون؟.

مجرد التحالف بين "القوات" و"المستقبل" فقط في بعلبك-الهرمل، معطوفاً على زيارة السفيرين لتلك المنطقة، والحديث عن تخطيط "مستقبلي" لتحصيل نواب في هذه الدائرة، يعني ان الهدف فوز معنوي يجري استثماره اعلامياً ضد "حزب الله"، في ظل عجز عن كسر التوازنات القائمة.

يعني ذلك ان الدعم الخارجي سيكون خجولاً أو متواضعاً هذه المرة، خصوصاً لوجود تداخلات في التحالفات الداخلية خلطت المشهد اللبناني، فتنوّعت التحالفات بحسب المصالح، وأتت كلها تصبّ في خدمة المحافظة على التوازنات القائمة. بقاء الستاتيكو اللبناني من دون تعديل جوهري، هو ثبيت للصورة السياسية في لبنان، في ظل انشغال العالم بساحات اخرى الى حين.