في اليوم التالي لمغادرة القوّات السوريّة لبنان بعد إغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، تمّ حجب الفضائية السورية من لائحة معظم الفضائيات الكثيرة التي كانت توزّع على المنازل في بيروت.عبثاً حاولت إقناع موزّع القنوات بإعادتها لكنه كان يتذرع بحجج غير مقنعة حافلة بالعدائية والبغض لكلّ ما يمتّ إلى سورية. حاولت أن أشرح له ضرورة متابعة ما سيحصل هناك لمن إمتهن الصحافة أوالكتابة أو السياسة، تجاوزني قائلاً أنّ أثنين فقط يطلبان عودة الفضائية السورية: أنت ويوسف.
ومن هو يوسف ؟
أجاب: قصّاب سوري اختار مخاطر البقاء في لبنان. أذعنت وجذبتني لفظة القصّاب يوسف الى فكرةٍ أوسع هي إمكانية رسم صورة طبق الأصل عن مهنة القصّابين وتطبيقها على السياسيين اللبنانيين لدى البحث في أصنافهم وفصائلهم وطموحاتهم أو أطماعهم المنبعثة عكّازات خطابية في حملات المرشّحات والمرشّحين الكثر إلى الإنتخابات البرلمانية المقبلة (6 أيار/مايو 2018).
كانوا وهم في الواقع، ما زالوا في فصائل ثلاث لم يخرجوا منها: العظم واللحم والأدران. العظم هو الأمنع في لغة القصابين وعلماء البيولوجيا ينسحب على علاقات الأفراد أو الجماعات أو العلاقات الدولية لأنّ العظام عظيمة في صلابتها تعيش مئات بل ألوف السنين مقابل هشاشة اللحوم والأدران وفسادها السريع. لا يمكنك بناء علاقاتٍ صامدة مميزة على أي مستوى إن لم تكن حافلة بسمات الصلابة في العظام. هذه الفصيلة لم يخلو منها لبنان سواء بالنسبة لسورية أو غيرها من بلدان الإقليم والخارج وذلك بالرغم من أنّ لبنان وغيره من البلاد محكومة بحصرية السياسة بحماية الخارج والإقطاع والعائلية والطائفية بل بالطائفية والمذهبية المتوثّبة.
ما أن حلّ" الربيع العربي" خراباً سورياً في ال2011، حتى عادت سورية إلى لبنان، وعاد السوريون واللبنانيون أكثر فأكثر يتخالطون ويتجادلون ويتناسلون في فصول الحروب المتنقّلة والخرائب التي لا تنتهي.
يكاد الإنقسام في ما بين اللبنانيين يدور وبحدّة اليوم حول أمور سطحية جدّاً كأن يختلفوا مثلاً في تسمية المليون ونصف سوري في لبنان بكونهم نازحين أو لاجئين وكأنّ الأمر يحل هموم الحاضر وصورة المستقبل. يُغرق اللبنانيون أنفسهم مجدّداً ومعهم السوريون في لبنان بإستحضار القصص والروايات والمعضلات المعقّدة والمستعصية والتفصيلية الظاهرة في فصائل الخطب والتصريحات التي كانت أو صارت أو ما زالت تحكم علاقة البلدين. ويعمل السوريون بحذاقة ومهارة وحذر ووفر لدى اللبنانيين في كلّ المهن إلى درجة غيظ عمّال لبنان، وتشهد إختلاطاً ظاهراً في العادات واللهجات كأن يخاطب سوري مثلاً طفله المولود في لبنان بالقول: PAPI بدلاً من بابا أو أبي أو أبوي.
حيثما جلست وأنصتّ أوحاورت وجادلت في حلقات اللبنانيين السياسية اللامتناهية، فإنّك تجد نفسك أمام ألسنةٍ كانت حتّى ال2005 معقودة ومكبّلة في إعلان فصول القهر والفساد لتعاود الإنطلاق فجأةً اليوم محرّضةً بسيولٍ من فصول القصص وسرد الحكايات المشابهة للخيال تستعيد تظهير ممارسات السوريين الذين أوكل إليهم طيلة عقدين التحكّم بأمور لبنان. تشعر وكأنّ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مثلاً لم تعد في لاهاي بل إستفاقت مجدداً فوق كلّ لسان،
ما السبب في ذلك؟
تفيض القرائح بالإسرار المدفونة وتكشف الأغطية عن تاريخ يشحذ المصفّقين الكثر وتعري الكثير من الشخصيات التي حكمت هذا البلد وكأنّها ستحكمه إلى الأبد.
إتّخذت العلاقات بين لبنان وسوريا تسميات قديمة مثل علاقات "التنسيق والتعاون" أو "علاقة توحيد المصير والمسار" الى "تلازم المسارين" ثمّ تمّ "فصل المسارين" بعد ال2005. كان يمكن إختصار تلك العلاقات بعلاقات الإستعداء والإستقواء والإستجداء والإستعلاء وكلّها نماذج من العلاقات الدولية السائدة. أورثت تلك العلاقات الإنقسام والخواف وتبادل الإتهامات والتفريج بمعنى catharcis أو التفريغ اللائم لما تختزنه الذاكرات . يتجاوز التفريج اليوم المحكمة الخاصة بلبنان وتاريخ سورية والسوريين سواء في حروب لبنان واللبنانيين العبثية وسلمهم الحالي العجيب في أثناء الحروب المتنوّعة التدميرية في سورية وسلمها الغريب العجيب الذي لم تظهر ملامحه النهائية بعد. يمكن القول أنّ اللبنانيين خرجوا من حروبهم المريرة نحو دستور الطائف
بالمصافحة والضغوط، ولم يتعرّفوا بعد الى المصالحة الوطنية بمعانيها الواسعة. وما يرشح من نبشٍ متراكم ومعلن لأسرارهم وتاريخهم الدموي المعاصر وتشظياتهم سواء عبر المحكمة الدولية أو عبر الكشف عمّا عاينوه من تراكمات مرهقة وضغوط محلية وإقليمية، قد يفضي بهم في المستقبل الى مصطلح أساسي خامس هو الإنتماء إلى لبنان لكنهم يرفعون شعار لبنان أوّلاً ليتصدّر ألسنة المرشحين ونصوصهم الإنتخابية، من دون الإنتباه إلى أنّ معظمهم واقع في فخ السؤآل: أي لبنان نريد؟