كلّما واجه لبنان استحقاقاً إقليمياً، اهتزت «تخريجة» النأي بالنفس. في المشهد السوري المحتدم والمفتوح على احتمالات عديدة، يتجدّد سؤال الحكومة والانتخابات والاستراتيجية الدفاعية... والتسوية الرئاسية
فصلٌ جديد من فصول الصراع الدولي على سوريا، يحتدم الآن في سماء المنطقة وبِحارها. سيناريوات واحتمالات متعدّدة تضع لبنان أمام لحظة مفصليّة، بوصفه خاصرة سوريا «الرخوة»، في التاريخ والواقعية الجيو ــ سياسية والمعنى.
فالضربة المفترضة أو الافتراضية ضدّ الدولة السورية، أو ما يمكن تسميته «العدوان الثلاثي» الأميركي ــ البريطاني ــ الفرنسي بتحريض وتمويل سعوديين، يحدد نوع الردّ الروسي ــ السوري ــ الإيراني من جهة، ويضع لبنان أمام مفترق طرق خطير من جهة ثانية، ولا سيما لجهة اختبار صلاحية لعبة «النأي بالنفس» المُبتذلة.
والسؤال الأهم هو عن موقف لبنان الرسمي في مواجهة احتمال العدوان على سوريا، من الشرق السوري أو من الفضاء اللبناني المُشرّع للطائرات والصواريخ الغربية والإسرائيلية، والتي قوبل آخرها يوم أمس بِرَدٍ خجول لحفظ ماء الوجه، من قبل وزارة الخارجية اللبنانية.
لبنان بالنسبة إلى دمشق، مثل حلب، رئة... ومَخْنَق. دفع السوريون دماً غالياً في البقاع الغربي وراشيا والمديرج وطائرات حربية كثيرة، لكي لا تُطبِق إسرائيل والأسطول السادس الأميركي والبحرية الفرنسية على عنق دمشق، من خطّ دفاعها الغربي الأول: سِلْسِلَتَي جبال لبنان. وعلى مدى سنوات، ما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982 حتى اتفاق الطائف، كان عنوان الانخراط السوري في الميدان اللبناني والطريق الذي رسمه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، تثبيت خطوط دمشق الدفاعية في أقاصي الغرب على شواطئ لبنان. إنّها معادلة يصعب على بعض اللبنانيين فهمها. وللغاية، وَجب ايضاح واستيضاح، النقاط الآتية:
أوّلاً، إن أي ضربة عسكرية ضد سوريا تُستخدم فيها الأجواء اللبنانية، ستكون لها تداعيات مباشرة على الواقع اللبناني، عسكريّاً وسياسيّاً، ليس في الحاضر فحسب، بل في مسار التسوية السياسية التي تُرْسَم لمستقبل سوريا وتالياً لبنان، والاشتباك الحالي جزء منها. وهذا الأمر يعني أن الاصطفاف اللبناني ستكون له حساباته السورية. لن يقبل السوريون مستقبلاً أن يبقى الموقف اللبناني «نائياً بالنفس» تجاه أمن سوريا، أو أن يتحوّل لبنان إلى منصّة لحلف «الناتو»... «لبنان ليس أوكرانيا»، قالها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في وقتها المناسب، وتصيب الآن توقيتاً مناسباً أيضاً.
ثانياً، يطرح التصعيد الحالي سؤالاً رئيسيّاً، عن الاستراتيجية الدفاعية اللبنانية المفترضة، والتي كانت جزءاً من تسوية الإفراج السعودي عن رئيس الحكومة سعد الحريري وشرطاً لانعقاد مؤتمر روما لدعم الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية، مع كلّ التفرعات الجانبية، من «الفوج النموذجي» إلى تعطيل اتفاق التعاون العسكري مع روسيا. هل سيكون رفض استهداف سوريا مروراً أو انطلاقاً من لبنان، جزءاً من الاستراتيجية الدفاعية؟ ما هو موقف رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو الكفيل بأن تراعي الاستراتيجية أمن لبنان وسوريا معاً؟
ثالثاً، في الوقت الذي يتآمر فيه الغربيون والسعوديون على سوريا، بدا رئيس الحكومة سعد الحريري جزءاً من المشهد، مباشرةً من باريس. تسوية الحريري الرئاسية مع فريق المقاومة في لبنان ووصول عون إلى رئاسة الجمهورية، مرّت في الوقت الدولي الضائع، في آخر أيام الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. الآن، عاد الحريري إلى قواعده السعودية. عاد ليكون مفصلاً سعودياً، بعد أن خسرت المملكة أذرعها الإرهابية في الميدان السوري، من «داعش» إلى ما يسمّى «جيش الإسلام». السعوديون يريدون شيئاً ما... أي شيء. فالرئيس السوري بشّار الأسد باقٍ في قيادة سوريا، باعتراف بن سلمان نفسه، قالوا فـ«لنجرّب انتزاع حصّة»... بقوّة الصواريخ الأميركية. هل سيصمت الحريري أم يبارك العدوان على سوريا؟ موقف المقاومة وحلفائها واضح ومعروف: رفض استهداف سوريا من لبنان، الدفع باتجاه موقف لبناني رسمي، وإذا تدحرج الاشتباك، فلن تقف المقاومة مكتوفة الأيدي. ما هي انعكاسات أي موقف للحريري على الحكومة اللبنانية؟ هل تبقى الحكومة أم تنفجر في الوقت الذي بدأ يتعامل الحريري معها على أنها منتهية الصلاحية على أعتاب الانتخابات؟ أين وزير الخارجية جبران باسيل من التركيبة الحريرية ــ السعودية ــ الفرنسية؟ وما هو موقف عون من الحريري شريك محمد بن سلمان؟ هل يبلغ الانقسام اللبناني أقصى حدوده حول العناوين الكبرى وما هي انعكاساته؟ فريق مع سوريا في الموقف والسلاح وفريق مع فرنسا والسعودية وأميركا بالموقف والموقع؟ ماذا عن الانتخابات اللبنانية؟
أسئلة لا تنتهي في المتاهة اللبنانية. لكن التغاضي عنها لن يكون متاحاً، حالما يبدأ الاشتباك الكبير... في سماء لبنان والمنطقة.