يتواصل في لبنان الجدل القانوني والإعلامي بشأن المادة 50 التي تضمّنها قانون المُوازنة لعام 2018، والتي تتحدّث صراحة عن منح أي عربي أو أجنبي إقامة دائمة في لبنان له ولعائلته، في حال تملّك شقّة سكنيّة لا يقلّ سعرها عن خمسمئة مليون ليرة لبنانية. فهل فعلاً هذا الأمر يُساعد على تنشيط الإقتصاد –كما يُردّد المُدافعون عن هذه المادة، أم هو فعلاً عبارة عن توطين مُقنّع– كما يُشدّد المُعارضون؟
بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّه في العديد من الدول التي تعاني من أوضاع إقتصاديّة ومالية ضاغطة، أصدرت السُلطات الرسميّة المعنيّة فيها، قوانين تُشجّع على جذب الأجانب إليها، بحيث يتمّ مثلاً منح إقامات طويلة الأمد، وتأشيرات دُخول وخروج إليها، وُصولاً حتى إلى حق إكتساب الجنسية في بعض الحالات، وذلك عند توظيف إستثمارات مالية كبيرة تختلف قيمتها بين دولة وأخرى، لكنّها لا تقلّ عن مليون دولار أميركي، أو عند تأسيس شركة توظّف ما لا يقلّ عن 10 أشخاص في البلد المعني، أو عند شراء أحد المنازل الفخمة، إلى ما هناك من شروط. أمّا في لبنان، وبحجّة تحريك القطاع العقاري الذي يُعاني من الركود منذ سنوات، خرجت السُلطات اللبنانيّة بإقتراح الحُصول على الإقامة الدائمة في مقابل شراء شقّة، علمًا أنّ الفوارق بين لبنان والدول التي إعتمدت هذه الحوافز، متعدّدة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: إنّ مساحة لبنان محدودة جدًا نسبة إلى عدد سُكانه الأصيلين، بعكس ما هي الحال في الدول التي شجّعت على الإقامة فيها مثل اليونان أو البرتغال أو إسبانيا على سبيل المثال لا الحصر، وذلك من دون إحتساب الضغط الناجم عن اللاجئين الفلسطينيّين والسُوريّين وغيرهم. وهذا يعني أنّ إستمرار تشييد الأبنية والمُجمعات السكنية بنفس وتيرة السنوات القليلة الماضية وبنفس الأسلوب العشوائي البعيد عن أي تخطيط مُدني أو عصري حديث، سيُؤدّي إلى إختفاء البُقع الخضراء كليًا من لبنان، وإلى زيادة الضغط على البنى التحتيّة من مياه وكهرباء وطرقات، حيث تزداد فوضى المَباني والمُجمّعات في الوقت الذي تبقى فيه كل البنى المُرافقة لها على قِدَمها ومَحدوديّتها.
ثانيًا: إنّ الدول الأجنبيّة التي لجأت إلى هذا الأسلوب التحفيزي إستهدفت الطبقات الغنيّة حصرًا، مُركّزة على حوافز توظيف الإستثمارات المالية وتأسيس الشركات التي توظّف اليد العاملة، إلى جانب مسألة شراء شقّة فاخرة التي تصب أموالها في نهاية المطاف في الدورة الإقتصادية للبلد المعني. أمّا في لبنان فإنّ أحدًا لم يتحدّثعن تأسيس شركات أو عن توظيف يد عاملة أو عن ضخّ إستثمارات مالية كبيرة، حيث إكتفت السُلطات اللبنانيّة بالحديث عن شقّة لا تقل قيمتها عن 500 مليون ليرة لبنانية، أي 333000 دولار أميركي في حال كانت خارج بيروت، وعن 750 مليون ليرة لبنانيّة، أي 500000 دولار أميركي في حال كانت ضمن بيروت. وليس بسرّ أنّ بيع العديد من الشقق السكنيّة في لبنان يتمّ باتفاقات من تحت الطاولة بين المالك والشاري، بحيث يتمّ رفع قيمة بعض الشقق وتخفيض قيمة شقق أخرى حسب الرغبة والمصلحة. وبالتالي من المُمكن شراء شقّة عاديّة في ضواحي بيروت بسعر يبلغ قرابة 200000 دولار أميركي، علمًا أنه يُمكن أن يتمّ اللعب بالأوراق وبالقيمة الفعليّة لهذه الشقّة لجعلها تساوي 333000 دولار أميركي عند تقديم المُستندات الرسميّة.
ثالثًا: إنّ القطاع العقاري في لبنان يُعاني بسبب الكلفة المرتفعة للشقق، والتي جعلت مسألة شراء شقّة جديدة محصورًا بالطبقة الميسورة، وبخاصة بالشبّان الذين يعملون في الخارج من الخليج إلى إفريقيا، وفتح المجال أمام شراء الأجانب لجزء من هذه الشقق عبر حافز الحُصول على الإقامة الدائمة، سيُؤدّي إلى زيادة الطلب على هذه العقارات، وبالتالي إلى زيادة أسعارها وفق مبدأ "العرض والطلب" المعروف. وهذا سيُسفر عن عجز شرائح إضافية من اللبنانيّين عن التملّك في لبنان.
رابعًا: إنّ لبنان غير قادر على إستقبال أي شخص أجنبي إضافي على أراضيه، حتى لو كان ثريًا، علمًا أنّ من يبحث عن شراء شقّة لتملّكها يكون عادة من الفئة التي تُحاول خفض تكاليف إقامتها خارج بلدها الأصلي، بمعنى آخر إنّ الأشخاص الذين لا يريدون دفع تكاليف الإقامة في الفنادق وتناول الطعام في المطاعم يذهبون إلى شراء شقّة عادية للسكن حتى يناموا ويأكلوا ويشربوا فيها.
خامسًا: حتى لو جرى التسليم جدلاً بأنّ هذا الأمر الوارد في مُوازنة العام 2018 يُدرّ أموالاً في القطاع العقاري ويُنشطّ بالتالي الإقتصاد اللبناني، وأنّه عبارة عن تنظيم لعمليّات شراء فوضويّة تحصل حاليًا، فإنّ من شأن هذا الإجراء أن يؤثّر سلبًا على الديمغرافيا العددية في لبنان، حيث سيزداد عدد الأجانب على حساب تناقص السُكان اللبنانيّين بفعل إستمرار سياسة فتح الأبواب على مصراعيها في مُقابل إستمرار هجرة الشباب اللبناني إلى الخارج. وجزء من الفلسطينيّين والسوريّين وغيرهم، يملك القُدرة المالية على شراء شقّة في ضواحي بيروت، ما يعني عمليًا أنّ الدولة منحته حافزًا إضافيًا لمُضيّه قُدمًا في البقاء في لبنان، ولمُواصلة مُزاحمته اليد العاملة اللبنانيّة.
في الخلاصة، إنّ المادة 50 الواردة في مُوازنة العام 2018 هي عبارة عن توطين مُقنّع للفئة المرتاحة ماليًا نسبيًا من ضمن اللاجئين الفلسطينيّين والسوريّين، وهي عبارة عن ضرب للقُدرة الشرائيّة للشباباللبنانيّ نتيجة إستقطاب مالكي العقارات فئة جديدة من الشارين جاهزة للشراء بسبب حافز شرعنة وُجودها ووُجود عائلتها في لبنان. وهذه الأموال لن تُفيد الإقتصاد بشيء، باستثناء زيادة ثراء الفئة العاملة في قطاع البناء، والتي ستتشجّع لقضم المزيد من المساحات الخضراء في لبنان لصالح الكتل الإسمنتيّة التي تنتشر في ربوعنا من دون أي تخطيط معماري أو مراقبة بيئيّة، وأي كلام غير ذلك هو مُحاولة تعمية على واقع واضح لا أكثر!