يصعب فهم البرودة في سلوك أجيالنا الشابة حيال مشاهد العنف التي تملأ المكان العربي. لن أقدّم النعوت السلبية لهذه "الثقافة" الجديدة المستوردة المستغرقة في اللامبالاة. نبدو وكأننا في عصرٍ الإنقياد للتآلف والقبول الراضخ والناعم لتلك المشاهد إلى حدود إفراغ الموت والحروب المقيمة عندنا أو المحيطة بنا من البشاعات والمضامين القاسية المؤلمة تاريخياً.
هي تحولات هائلة تجرّها إلينا ثقافة دفق الصور الحقيقية الحيّة في عنفها التي تبدو وكأنها نسخة طبق الأصل المشاهد السينمائية المقيمة في كبت المخرجين وخيالهم. كيف؟
بدأت المسألة فعلياً في العراق(2003) إذ أعتبرت الحرب الأميركية عليها الاولى في العالم بعد ثورة الإتصالات التي حققت قفزات تكنولوجية ضخمة إجتاحت العالم. تحوّلت وسائل الاعلام بتأثيراتها أسلحة ممهدة وموازية للسلاح النووي والحروب الالكترونية والتكنو إقتصادية في أوجهها المختلفة. وبفضل هذه المنجزات بدا الرأي العام العالمي وكأنه مشدود بشعره إلى التحديق الدائم في المعارك والتعوّد على وطأتها ومشاهدها بالتزامن مع تطبيقات الحروب والألعاب في الشاشات التجارية المختلفة. لقد دفعت كثرة الصور وضراوتها ونقاوتها وسرعتها الى جعل المشاهد شريكاً فيها متقمّصاً لأبطالها، وكأنه هو من يقاتل أو يقترف الجرائم أو يبكي الضحايا أو يتعاطف مع الأبرياء... إنها الحرب الكاملة في عين الدنيا.
غاب المتلقي الذي كان العنصر الأوّل للعملية الاعلامية الى جانب المرسل والرسالة ليسقط دفعة واحدة في تشظيات الزجاج بصفته مرسلاً جديداً ومالك رسالة وأفعال وردود أفعال تدعمه منظومة الإنترنت المتحررة فعليا من أية رقابة بقدر ما هي معرض موسوعي مفتوح للصور والخيالات التي يتناقلها ويتبادلها جمهور العالم.
يمكن القول في فرضية أولى بأن تبدلاً فكّك استراتيجيات الحروب ومفاهيمها العامة المعروفة، عندما تخطت الحروب الجديدة "الرقمية" المكان والميدان لتبدو حروبا بالصوت والصورة لها وقعها المباشر في نسيج حركة الإستقطاب العالمي ودورها في تبديل التحالفات او اتخاذ القرارات وتعديلها وفقا لما تبثه الشاشات.
ويمكن القول ثانياً أن العرب إنخرطوا في الحربين العسكرية والإعلامية محققين بذلك أول اختراق ملحوظ في صلابة الجدار الإعلامي الغربي والإسرائيلي، والذي أسّس على مدى العقود السابقة لعقدة العرب الفعلية في هزائمهم المتتالية، حيث كانت
الحجة ثابتة وصلبة وتستخدمها الأنظمة لتبرير عدم إيصال صوت العرب الى العالم.
للمرّة الأولى في تاريخ الصراعات العربية الداخلية والخارجية، بدا الإعلام العربي حاضراً بالصوت والصورة تفاصيل المعارك وعلى مستوى معقول من المهنية والإحتراف. وباتت الفضائيات العربية على مستوى الأحداث من حيث التغطية أو التعرية الفورية، إذ دخلت ملاعب الشاشة العالمية وساهمت في إبراز الصور والحقائق عندما لم تتمكن دوائر النفوذ العالمية من إلتقاطها أو عمدت إلى طمسها. بالفعل، فرضت الشاشة العربية مشاهد المعارك والأسرى والجرحى والقتلى وشاهدها العالم معنا بأسره، ولم تولّد ردود فعل فائقة الأهمية في التغيير الجذري.
هذه التجربة الفتيّة المغرية للاعلام العربي في المواجهة تعني العرب كلهم، ولا تقتصر جدواها او انعكاساتها أياً تكن طبيعتها على العراق وحده أو سورية أو اليمن أو غيرها من البلدان العربية.
نطرح هذه التجربة في أهميتها الذي تشغله الصور في استراتيجيات الحروب. يمكن نسيان الحروب لكنّ الصور تبقى أدلة للتاريخ. وعندما يلتقط المصور الشهيد مشهداً أو لحظة من المأساة، فهو يؤبّد اللحظة التي تجعل العين لا تنسى، وتصبح الصورة "جوهرة" قابلة للإشعاع الدائم وحافزاً على الموقف والعقل والإنخراط في الهوية لا في العصر الرقمي.
كانت الصورة ابنة الغرب يصعب هضمها في الشرق، لكنها تحولت أحياناً إلى وسيلة للهجوم المعاكس. وتكاد تفرغ الصور اليوم من مضامينها بعدما هضم العرب مآسيهم وخرائبهم وتشتّتوا وكادوا ينسون حضارات الصورالتي انبثقت أساساً من أرحامهم الهيروغليفية والمسمارية لتطلق أوّل كتابة في التاريخ.
يتدمّر الماضي في بلاد العرب، وتزول الفروقات بين حضارتي العين والأذن، ونشهد معاً ذوبان المسافات بين عين الغرب وعين الشرق وتفقد العولمة وهجها حيث يقوى الملل والصراخ عمّا ينتظرنا بعد سقوط العولمة الحتمي بعدما باتت تتراجع علاقة الصور الضوئية الملونة بالوقائع اليومية من حيث قدرتها على التأثير، وتفقد أهميتها الأولى بصفتها قنبلة رقمية ستغيّر كل شيء. لنعترف أنّ ألبومات الصور الإستراتيجية باتت قابلة للزوال من ذاكرات الشعوب لا الدول بما يهدّد بإندثار الماضي.
من يؤّرخ لأمَّهات صور العقد الماضي إذن تدليلاً على رصد التحولات في ذاكرات الدول العربيّة مثلاً؟ وكيف تخدم تلك الذاكرات في مخزونها وتجاربها منعة أجيالنا المقبلة؟
الجواب الجامعي : لا أحد لأن إدمان السباحة في "حضارة الإتصال" الوهمي الكثيف يرمي الإنسان المعاصر في الإنقطاع والأمراض.