وضعاً للأمور في نصابها نقول إن قرار العدوان الثلاثي على سورية اتخذ في الأيام الأولى لنجاح الجيش العربي السوري في اختراق الغوطة وشقها الى جزءين ثم ثلاثة، في مشهد يؤكد أن منظومة الدفاع الإرهابي في المنطقة قد سقطت وأن المواقع الحصينة المحضّرة بإتقان فوق الأرض وتحتها لم تجدِ أصحابها نفعاً ولم تدفع عنهم خطر العمليات العسكرية التي ينفّذها الجيش العربي السوري وحلفاؤه وفقاً لاستراتيجية محكمة وخطة تنفيذية عالية الإتقان وأداء ميداني محترف قلّ نظيره.
لقد راهن معسكر العدوان بقيادة أميركا للاحتفاظ بالغوطة الشرقية كورقة استراتيجية هامة على أمرين:
الأول الوضع الميداني لمسرح العمليات، حيث تمّ ترتيبه وتعزيزه وتجهيزه وتحصينه بشكل مميّز يصعب على أي جيش مهما كانت قدراته اقتحامه من دون أن يتكبّد خسائر لا تُحتمل. ففي 120 كلم2 من الأرض المبنية التي تكاد تكون في معظمها غابة من الباطون من المسلح فوق الأرض وتحولّت مواقع قتال حصينة ثم جهّزت بالأنفاق ومراكز القتال على مساحة 80 كلم2 تحت الأرض وزوّد الإرهابيون الـ 25 ألفاً فيها بأفضل منظومات القيادة والسيطرة والأسلحة والذخائر، وتولّى إدارة العمليات العسكرية فيها 300 خبير أطلسي وإقليمي وكلّف الطيران الإسرائيلي بتقديم الإسناد الجوي عند الاقتضاء.
أما الثاني، فقد كان رهان على «الهيبة» الأميركية والقدرات السياسية والدبلوماسية التي ستمنع الجيش العربي السوري من اقتحام المنطقة وتطهيرها من الإرهاب حتى آخر شبر منها، لقد توقّعوا عمليات محدودة على حدود الغوطة لا تتجاوز الكلم من العمق. وظل رهانهم هذا قائماً بعد سقوط رهانهم الأول حتى وصلت طلائع الجيش العربي السوري الى دوما التي فيها 12 الفاً من إرهابيي منظمة جيش الإسلام الذين هم الأفضل تنظيماً وتسليحاً من باقي الإرهابيين ويعملون في مدينة يتطلّب قتال الشوارع فيها لتطهيرها أشهراً طويلة من غير شك.
بيد أن رهانات الغرب سقطت بوجهيها السياسي والعسكري وأكدت سورية وحلفاؤها امتلاكهم قدرة مركبة في الميدان والسياسة، فضلاً عن الاقتدار في الحرب النفسية وقرّروا المضيّ في العملية العسكرية لتطهير الغوطة من دون أن يكون في الأمر تراجع أو بديل.
هنا أدرك الغرب القرار السوري وهاله أن يُنفذ، ولأنه يعرف تداعياته الاستراتيجية على مسار الازمة السورية برمّتها بوجهيها العسكري والميداني، فإنه اتخذ القرار بالتدخل العسكري ليس لوقف تنفيذ القرار السوري وقد بات مستحيلاً، بل لمنع سورية وحلفائها من استثمار الانتصار الاستراتيجي هذا، ورسم مشهد يعيد التوازن الى الميدان ويفتح الطريق إلى عملية سياسية متكافئة بين المعتدي والمدافع المعتدى عليه تتجاوز مكتسبات سورية في السنوات الأخيرة.
وعلى هذا الأساس خطّط للعدوان العسكري الأطلسي ليحقق أهدافاً استراتيجية كبرى تمر عبر إنجازات عسكرية مؤكّدة أما الأهداف فقد كانت كما تسرّب صراحة أو مداورة أو من فلتات اللسان، تتضمّن إلزام إيران والقوى المقاومة المتحالفة معها بالخروج من سورية ووقف مسارات استنا وسوتشي والعودة إلى العملية السياسية، وفقاً لمسار جنيف بصيغته الأولى أي بيان 30 حزيران 2012 وهذا ما أكدت عليه القمة العربية في الظهران والتي لم تقرأ ما حصل وقرّرت كما كانت تتمنّى، وكما خططت أميركا على أساس أن العدوان حقق أهدافه . لقد خطّطوا للأمر على أساس تجاوز كل انتصارات سورية خلال السنوات الثلاث الماضية. وهو حمق لا يقاربه حمق، لكنهم كانوا يعوّلون على العمل العسكري الذي سيلزم سورية بالإذعان، حسب ظنهم.
اما العملية العسكرية التي كان مخططاً لها فقد كانت تشمل عمليات تدمير أهداف عسكرية وسياسية وإدارية تؤدي إلى شل قدرات الدولة السورية وتنفذ خلال أيام لا تقلّ عن أسبوع. وقد تتجاوز عشرة أيام بقليل، عملية تكون دون الحرب الشاملة المفتوحة وفوق العملية المحدودة السريعة. ولهذا أسميناها يومها بعملية متوسطة الشدّة.
ومع وضع القرار العدواني موضع التنفيذ بدأت الصعوبات تظهر وبدأت العوائق تتشكل بسبب المواقف الصلبة والحازمة التي اتخذتها سورية وحلفاؤها في محور المقاومة وروسيا، مواقف فرضت هذا التراجع على المخطط الى درجة حشر فيها في زاوية الإحراج الشديد.
كان التراجع الأول في التوقيت، فبعد أن كانت الخطة تقضي بشن شبه حرب نحتفظ بمصطلح الحرب للخيار الثالث تنطلق في مطلع الأسبوع وتستبق جلسة مجلس الأمن التي دعت اليها روسيا، اجل الامر لما بعد الجلسة والذي تابع مجريات جلسة الثلاثاء وإقفال باب الدبلوماسية فيها بعد إسقاط 3 مشاريع قرارات تتعلق بسورية خرج بانطباع أن بدء العمليات العسكرية سيكون خلال ساعات من إغلاق مجلس الامن في نهاية الجلسة، لكن الإطلاق لم يحصل. وهذا ما حاول تبريره ترامب عندما قال أنا لم أحدد موعداً لبدء العمليات بعد.
أما التراجع الثاني، وهو الأخطر والأهم، فقد كان في طبيعة العملية بذاتها، وهنا كان الانقلاب المفصلي وكانت الصفعة المدوية التي سفّهت أحلام بولتون في الشهر الأول لتوليه منصبه مستشاراً للأمن القومي الأميركي. فبعد أن كانت العملية مخططة لتكون من فئة العمليات الاستراتيجية المؤثرة على قدرات سورية العسكرية وتقلب موازين القوى تبدّلت لتصبح من طبيعة العمليات المنخفضة الشدة لا بل في الدرجة الأدنى من الانخفاض الأقرب الى الاستعراضية، وإلا كيف نفسّر اقتصار الأهداف على أربعة، فيها اثنان من الأهداف المدمّرة أو المقصوفة سابقاً. وبالتالي يمكن القول إن العملية التي هدد بها لم تنفذ، وان الضربة العدوانية التي لجئ اليها هي فعل ضرورة لحفظ ماء الوجه وتحديد الخسارة المعنوية والحدّ من تآكل الهيبة الأطلسية. ما يعني أن بإمكاننا القول إن تهديد أميركا بالضربة لم ينفذ، بل نفّذ عمل آخر لا صلة له به.
أما النتيجة فقد كانت مشرّفة لسورية وحلفائها وكارثية على حلف العدوان الثلاثي. ففي حين لم تحقق الضربة شيئاً على الإطلاق بما في ذلك الخسائر المادية ذات الأثر الموجع، رسمت عمليات التصدي وردود الفعل صورة مشرقة لسورية في أبعادها الأربعة، البعد العسكري وفيه الاقتدار والشجاعة والكفاءة العالية التي يتمتّع بها الجيش العربي السوري في تصديه للعدوان وإسقاط صواريخه كالفراش المبثوث، والبعد القيادي وتكفي فيه الصورة المزلزلة لأصحاب العدوان والتي ظهر فيها الرئيس الأسد يحمل حقيبته وفيها ملفاته، ويدخل صباحاً مكتبه ليبدأ العمل باكراً كالمعتاد، والبعد السياسي وفيها التشبث بكل ثوابت سورية من دون الميل عنها قيد أنملة، كما عبر بيان الخارجية السورية، وأخيراً البعد الشعبي الذي يشكّل بحد ذاته صدمة تُذهل المعتدي. وهو يرى ساحات المدن السورية تغصّ منذ الصباح بالسوريين المبتهجين بالنصر والهازئين بصواريخ العدو.
هذه اللوحات من المشهد السوري أنتجت كارثة للثالوث المعتدي في كارثة سيُبنى عليها بدون أدني شك في ما تبقى من مواجهة خاصة، حيث إن هذه القوى تأكدت من خسارتها المتشعبة وعلى الشكل التالي:
ميدانياً: خسرت الغوطة وهي أخطر وأهم ورقة استراتيجية كانت تمسك بها للضغط الأمني والسياسي على دمشق وتحتاجها لخدمة استراتيجية إطالة امد النزاع الأميركية.
عسكرياً: خسرت الهيبة وورقة التهديد بالحرب الشاملة، حيث إن قوى العدوان لمست بالمحسوس الملموس أن التهديد بالحرب المفتوحة لم يعد مجدياً لأنها غير مستعدة لها أصلاً ولأنها لا تستطيع اتقاء مخاطرها مؤكداً.
سياسياً: خسرت في هذا الكثير وتكفي مراجعة جلسات مجلس الأمن والتعلق السوري والروسي فيها، مقابل المراوغة والعجز الغربي الذي لجأ أصحابه الى الكذب لنقول كم كانت الخسارة الغربية فادحة.
استراتيجياً: خسرت فرصة أو إمكانية استعادة التوازن الى المشهد السوري. وهو أمر تحتاج اليه لتدخل الى مفاوضات الحل السياسي النهائي للأزمة الذي يحفظ لها مكاسب ومصالح في سورية، كما تبتغي.
والآن نعود الى السؤال ماذا بعد هذه المواجهة، ونرى أن الرد بسيط، من هُزم وفشل لا يستطيع أن يملي شروطه، وبالتالي لا نرى أن ما طالبت به دول العدوان واتباعها من العودة إلى جنيف الآن ممكناً، لأن مسار جنيف أصيب بشظايا توماهوك أميركي فجّر بصاروخ أس 200 سوري من صنع روسي، فسدّ مسار جنيف ليبقى مفتوحاً مسارا استنه وسوتشي سياسياً وطرق الميدان عسكرياً لاستكمال استعادة الأرض مطهّرة بلا إرهاب.
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.