تتسارع الأحداث السورية والدولية منذ العدوان الثلاثي على سوريا والضربة الصاروخية التي وجهتها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الى مواقع بحثية سورية، ردًا على هجوم كيمياوي مزعوم في دوما، وانتصارًا لـ "شرف" المجتمع الدولي كما أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وبالرغم من الضربة، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ما زال مصرًا على سحب الجنود الأميركيين من سوريا، ودعا الدول الحليفة الى الحلول مكان الدول القوات الأميركية لتأمين الأمن والاستقرار في المنطقة التي سينسحب منها الأميركيون. دعوة تصدى لها وزير الخارجية السعودي وأعلن أن "التحالف الاسلامي" مستعد لإرسال هذه القوات. وفي العدوان والاعلان عن الإنسحاب تناقض كبير، ففي الأول مزيد من الإنخراط في الحرب السورية وفي الثاني انسحاب منها، فكيف سيكون المشهد في الفترة المقبلة؟.
- واقعيًا، تشبه الدعوة الى الحلفاء لتأمين جنود للحلول مكان الاميركيين، الدعوة التي وحهها أوباما الى الحلفاء لتدريب "جيش سوري" لكي يؤمّن الأراضي التي يتم السيطرة عليها، فتنطحت كل من السعودية وتركيا لهذه المهمة. عجزت السعودية، فقامت تركيا باستضافة معسكرات تدريب أميركية لمعارضة "معتدلة" سرعان ما استسلم عناصرها لجبهة النصرة وسلموها أسلحتهم الأميركية وأنتهت الفكرة بدفع الملايين من الدولارات من جيوب الملكفين الاميركيين بدون نتيجة ميدانية على الأرض.
- إن تنطح السعودية لمهمة إرسال قوات عسكرية الى سوريا، لا يعني أن بإمكانها فعل ذلك، وحتى إن دول التحالف الاسلامي الذي تحدث عنها الجبير لا تبدو قادرة عمليًا، فمصر غارقة في مشاكلها الأمنية الداخلية والارهاب الممارس ضد القوى الأمنية والأقباط هناك. بالاضافة الى الخطر المتأتي من جهات عدّة وأهمها سيناء وليبيا والحدود المتفلتة التي تحتاج الى جهود الجيش المصري لضبطها ومنع انفلات الحدود بما يشكّل خطرًا على الأمن القومي المصري.
أما السعودية فالمرتزقة التي استقدمتها من دول اسلامية فقيرة، وجيشها وقوتها العسكرية والمادية مستنزفة في الحرب اليمنية التي لا تشي بنهاية قريبة، بالاضافة الى الاختراق اليمني للحدود والصواريخ الباليستية التي تصيب عمق الأراضي السعودية وصولاً الى الرياض.
وتبقى قطر التي لا تملك جيشًا كبيرًا، وهي تعيش قلقًا أمنيًا يتجلى بتهديد دول الحصار الدائم لها، ولولا الحماية التركية والتدخل الأميركي لما استطاعت قطر أن تفلت من تدخل عسكري خليجي في إقليمها يطيح بالعائلة الحاكمة وينصّب حاكمًا آخر مكان تميم بن حمد بن خليفة.
- وتبقى تركيا، وهي الطرف الأقدر على القيام بالمهمة وذلك لتواصلها الجغرافي والحدود المشتركة التي تربط الأراضي التركية بالجزء الذي يسيطر عليها الأميركيون في سوريا، بالاضافة الى قدرات الجيش التركي الكبيرة، والنفوذ التركي على مجموعات كبيرة من المسلحين في الداخل السوري والتي يجعلها تسلّم مهمة الأمن في الأرضي التي احتلتها عبر درع الفرات وعملية غصن الزيتون الى قوات محلية سورية، وإبقاء جيشها بعيدًا عن المناطق السورية المأهولة.
ولكن دون مشاركة تركيا في هذه المهمة، عوائق ابرزها أن المكون الكردي الذي يقوم بمهمة الأمن الداخلي في مناطق سيطرة الأميركيين، لن يقبل أن تتسلّم تركيا القواعد العسكرية الأميركية وتسيطر على الاقليم التابع لهم. بالاضافة الى أن دعوة تركيا لتأمين الأمن والاستقرار في منطقة الشمال الشرقي السوري تبدو وكأنها دعوة الذئب لحراسة القطيع، ويعني بشكل أكيد أن الأميركيين قد تخلوا مرة أخرى عن حلفائهم، وتركوا الأكراد لمصيرهم في منطقة مغلقة يحيط بهم دول رافضة لأي فكرة استقلالية أو إنفصالية.
انطلاقًا مما سبق، يمكن القول أن مسألة الانسحاب الأميركي من سوريا وتسليم المنطقة الى أحد الحلفاء تبدو صعبة ومتعذرة واقعيًا. وهنا يكون أمام الأميركيين خيارات عدّة لمسألة انسحابهم فيما لو أصرّ عليها الرئيس ترامب:
- الخيار الأول: التخلي عن الاكراد وتسليم المواقع لتركيا مع ما في ذلك من خلط موازين القوى، وتقوية أردوغان الى حدٍ لا يرغبه الأميركيون والاوروبيون، ولكن قد يضطرون لذلك.
- الخيار الثاني: التفاهم مع روسيا وتسليم المنطقة للجيش السوري باعتباره صاحب السيادة على الأرض، وفي هذا تراجع وخسارة معنوية كبيرة لقوى التحالف الدولي التي لطالما صرّحت برغبتها بالتخلص من الرئيس السوري بشار الأسد.
- الخيار الثالث: سحب القوات الأميركية على أن تقوم قوى التحالف الغربي بتأمين النقص في الجنود، ويبقى الوضع كما هو عليه، وهو أمر صعب أن يقبله الغربيون بسهولة.
- الخيار الرابع: إبقاء القوات الأميركية وإبقاء الحال كما هو، الى أن يحين أوان الحل السياسي السوري، فيكون الوجود العسكري الأميركي ورقة ضغط على طاولة المفاوضات تضمن لهم تحقيق مصالحهم في سوريا، وتجبر القوى المتحاورة والدول الضامنة في أستانة على أخذ المصالح الأميركية بعين الاعتبار في أي حل سياسي سوري مستقبلي.
لا يمكن التكهن بالخيار المتبع، فالرئيس ترامب يصرّ على إبراز صورة عن نفسه "الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته"، والتناقض الذي شهده السلوك الأميركي بين الدعوة الى الانسحاب من سوريا، والقيام بضربة عسكرية في نفس الوقت، هو خير دليل على ذلك.