"إن التجربة أثبتت أنّ الندوات الانتخابية أفضل بكثير من المهرجانات الجماهيرية وما يرافقها من مسيرات ومظاهر تشكّل إزعاجاً للمواطنين"... بهذه العبارات، أعلن رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط إلغاء مهرجانات "الحزب التقدمي الاشتراكي" الانتخابيّة عشيّة الانتخابات النيابية المقرّرة في السادس من أيار المقبل، والاستعاضة عنها بلقاءات وندوات ضيّقة مع الفعاليات.
وإذا كان "التوقيت المتعمّد" للإعلان "الجنبلاطيّ" تزامناً مع مهرجان مركزي كان يقيمه "تيار المستقبل" في برجا، التابعة لدائرة الشوف–عاليه التي تشكّل عرين جنبلاط ومعقله الأساسيّ، له معانيه ودلالاته غير الخافية على أحد في السياسة، فإنّ ظاهرة "المهرجانات الانتخابية" المتمدّدة ترسم الكثير من علامات الاستفهام، من الشكل إلى المضمون، مروراً بالخفايا التي تجعل كثيرين يعتبرونها أشبه بـ"الاستعراضات المسرحية" ليس إلا...
عفوية غائبة...
يوم الخميس، حطّ رئيس الحكومة سعد الحريري في إقليم الخروب، مشاركاً في مهرجان مركزي نظّمه "تيار المستقبل" في بلدة برجا، التي غُيّبت عن لائحة تحالف "المستقبل" و"الاشتراكي"، بعدما اصطلح على تسميته بـ"سوء التنسيق" الذي لم تنته فصوله بعد بين "الحليفين المفترضين" انتخابياً وسياسياً. وفيما غاب "الحليف الجنبلاطي" عن المهرجان "المستقبليّ"، فإنّ "الاستعراض" كان حاضراً. هكذا، تخلى الحريري عن النصّ المكتوب لكلمته قبل إتمامها. نزل ليخاطب جمهوره، ويتنقّل بينهم، ويسمع منهم مباشرةً. تحدّى مرّة أخرى عناصر حمايته، مفسحاً المجال للتفاعل مع الجمهور، على أساس أنّه بين أهله، ولا خوف على أمنه هنا، وطبعاً لم ينس استحضار "الخرزة الزرقاء" في هذا السياق.
هو مشهدٌ بات مكرّراً في كلّ مهرجانات "المستقبل" المتنقلة بين المناطق. حضر في العاصمة بيروت، وفي عكار، وفي طرابلس، وفي حاصبيا، وفي غيرها، تماماً كما سيحضر في البقاع وعرسال، التي يزورها رئيس الحكومة في عطلة نهاية الأسبوع. هو مشهدٌ قد يبدو محبّباً على اعتبار أنّ رئيس الحكومة لا يخاطب جمهوره من برج عاجي كما يفعل البعض، بل إنه يجول بينهم ويخاطبهم من وسطهم. إلا أن المشكلة تكمن، إضافةً لكون هذا المشهد لا يتكرّر سوى في موسم الانتخابات، أنّه بات يفتقد العفوية لكثرة تكراره، حتى بات بالنسبة لكثيرين أشبه بالمسرحية المملّة في الشكل أكثر من المضمون، علماً أنّ هناك من يطرح أسئلة عن "الأمن الشخصي" للحريري الذي غاب عن لبنان فترات طويلة كونه مهدَّد بالاغتيال، فيما بات في موسم الانتخابات يسرح ويمرح ويجول، من دون أخذ احتياطات جدية، ظاهرة للعيان بالحدّ الأدنى.
ولا يقتصر الأمر على "تيار المستقبل" بطبيعة الحال، ولو كان الحريري الأكثر نشاطاً على هذا الصعيد، ويسجّل له المشاركة على المستوى الشخصي في كلّ مهرجانات تيّاره السياسي الانتخابيّة، ولو كان البعض يعيد الأمر إلى حاجته لذلك، على اعتبار أنّ كلّ ما يفعله هو محاولة الضغط على شارعه أينما وُجد، لتقليص حجم الخسارة المتوقعة في الاستحقاق الموعود. إلا أنّ المهرجانات المتكرّرة التي تقيمها مختلف الأحزاب الأخرى، تقع في نفس الأفخاخ، خصوصاً لناحية العفوية الغائبة، بما يطرح الكثير من علامات الاستفهام عن "جدوى" هذه المهرجانات، بعيداً عن الفوضى التي تتسبّب بها.
ماذا عن المضمون؟
ومن الشكل إلى المضمون، أسئلة أكثر تُطرَح ربطاً بالمهرجانات الانتخابية المتنقلة بين الأحزاب والمناطق، وهي أسئلة تستهدف أيضاً جميع الفرقاء، في الموالاة والمعارضة، وصولاً إلى قوى المجتمع المدني والمستقلين، ليس في ضوء غياب البرامج والمشاريع الانتخابيّة الحقيقيّة الفاعلة بشكلٍ عام فحسب، مع بعض الاستثناءات الخجولة التي لم تجد رغم ذلك المساحة المطلوبة لتسليط الضوء على نفسها، ولكن أيضاً لجهة مستوى الخطاب "الشعبوي" الذي تتطلبه ربما طبيعة مثل هذه المهرجانات، بما يسهم في زيادة "الاحتقان"، تحت ذريعة "إنها الانتخابات يا عزيزي".
وإذا كان صحيحاً أنّ هذا المستوى من الخطاب لا يقتصر على المهرجانات الانتخابية، كونه حاضرٌ بمهرجاناتٍ ومن دونها، على اعتبار أنّ طبيعة المعركة التي يفرضها القانون الانتخابيّ النسبيّ مع الصوت التفضيليّ جعلته من "المسلّمات" ليس فقط بين الخصوم المفترضين، بل حتى بين "الرفاق" على اللائحة الواحدة، وفي بعض الأحيان حتى داخل الحزب الواحد، فإنّ الصحيح أيضاً أنّ مثل هذه المهرجانات غذّت هذه الظاهرة بشكلٍ لم يترك "خط رجعة" مُتاحاً. ولعلّ أخطر ما في الأمر الخطاب المذهبي والتحريضي الذي عاد إلى الواجهة من بوابة مثل هذه المهرجانات، وفق قاعدة "ما يطلبه الجمهور"، في ضوء اعتبار معظم القوى السياسية أنّ مثل هذا الخطاب المثير للغرائز والعصبيات هو بوابة العبور نحو التأثير على الجمهور لتحفيزه على الاقتراع بكثافة، ولو تُرجم هذا الخطاب إشكالاتٍ بعضها دموي، باتت هي الأخرى من اليوميات الانتخابية.
وفي موازاة رفع الأسقف وفق القاعدة "الشعبوية"، حتى ممّن كانوا ينتقدون غيرهم على "شعبوية" خطاباتهم في الأمس القريب، ظاهرة أخرى مرتبطة أيضاً بالمهرجانات الانتخابية قد تكون أخطر، وإن كانت مرتبطة بكل الانتخابات اللبنانية على مرّ التاريخ، تتمثل في "الوعود الانتخابية" التي لا يبدو أن لها حدوداً. ولعلّ المفارقة هنا أن "قوى السلطة" المشاركة في الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف حتى اليوم، أو على الأقلّ خلال السنوات التسع الماضية، تتفوّق على سواها في إغداق هذه الوعود، من توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، من كهرباء ومياه وسواها، إلى تأمين فرص العمل، وصولاً حتى إلى مكافحة الفساد، وهنا المضحك المبكي، طالما أنّ هذه القوى هي المتهمة بممارسة الفساد، أو في حال "البراءة"، بغضّ النظر عنه، وبالتالي بالتواطؤ. أما القوى المدنية، فلا تبدو وعودها أقلّ شأناً، كونها غير مجرّبة، باعتبار أنّها كذلك تنطوي على مبالغاتٍ، خصوصاً مع خروج بعض الشخصيات المستقلة بخطابات توحي بأنّ انتخابها سيشكّل "خلاص البلد" من كلّ مشاكله، مع إدراكها وعلمها أنّها حتى لو نجحت في الوصول إلى البرلمان بكتلةٍ واسعة ومتجانسة، وهو ما يبقى مستبعداً حتى إشعار آخر، فإنّها لن تستطيع تحقيق شيء ممّا تعد به بمفردها.
"العدّة الانتخابية"
قد تكون المهرجانات الانتخابية جزءاً لا يتجزأ من "العدّة الانتخابية" التي يفترض بكلّ القوى السياسية تجهيزها للمعركة، وهي تلعب من دون شكّ دوراً في تحفيز الجمهور لممارسة حقه الانتخابيّ بالشكل المطلوب، ولعلّ عدم اكتفاء القوى الأساسية بمهرجان مركزي، بل توزيع اللقاءات الانتخابية على المناطق خير دليل على تعويلها على مثل هذه المهرجانات في التأثير سواء على المتردّدين، أو أولئك الذين يعتقدون أنّ صوتهم لن يُحدِث أيّ فرق.
لكن، وبمعزل عمّا إذا كان القانون الانتخابي سبباً في توسيع حجم هذه المهرجانات أو العكس، كما ارتأى النائب جنبلاط مثلاً، يبقى الأكيد أنّ "ظاهرة" هذه المهرجانات على الطريقة اللبنانية، باتت بحاجة لإعادة نظر كما مقاربة المشهد الانتخابي في المجمل، من العفوية الضائعة والمفقودة، إلى الأسقف المرتفعة، التي يوحي البعض من خلالها وكأنه يعتقد أنّ الحياة ستنتهي في السادس من أيار...