لم يمض وقت طويل على اعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، حتى عاد وأعلن انه قد ينضم إلى الاتفاق مجدداً إذا نجح في الحصول على بنود تراعي مصالح واشنطن بصورة أفضل" .
لماذ تراجع ترامب عن قراره، بعد أن اعتبر أن انسحابه من اتفاق الشراكة المذكور سوف يؤمن آلاف فرص العمل للأميركيين؟ .
الواضح من خلال التدقيق في أسباب التراجع الترامبي أن هناك العديد من العوامل التي تقف وراء ذلك، والتي تؤشر إلى تخبط ترامب في سياسته الاقتصادية التي يقدم فيها على اتخاذ قرارات متسرعة، ثم ما يلبث أن يعيد النظر فيها، ما يعكس عدم دراسة لانعكاساتها على أميركا، من منظار الربح والخسارة الاقتصادية، هل فؤادها أكبر بالنسبة للاقتصاد أم لا ؟.
فما هي العوامل التي تقف وراء ابداء ترامب الاستعداد للعودة إلى اتفاق الشركة:
العامل الأول:مواجهة التحدي الذي يمثله الاقتصاد الصيني، فاثر قرار ترامب رفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية سارعت الصين إلى اتخاذ إجراءات مماثلة ضد البضائع الأميركية التي تدخل إلى الصين مما الحق الضرر الفادح بالاقتصاد الأميركي وجعل ما حصده ترامب من رفع الرسوم على السلع الصينية يتحول إلى خسارة كبرى ، وبالتالي تلاشي الأثر الايجابي الذي أراد تحقيقه من قرار رفع الرسوم الجمركية.
ولهذا اضطر ترامب إلى دراسة العودة إلى اتفاق التجارة مع 12 دولة في المحيط الهادي تمتلك 40% من الاقتصاد العالمي وذلك لمواجهة المارد الصيني الاقتصادي الصاعد بقوة.
العامل الثاني:الضغط الذي مارسه نواب في الحزبيين الجمهوري والديمقراطي لأجل التوقف عن سياسة خوض الحرب التجارية التي لا يمكن أن تعود بالنفع على أميركا لان دول العالم سوف تعامل أميركا بالمثل، وأن السبيل لمحاصرة الصين واضعاف قدرتها التنافسية للسلع الأميركية في الأسواق العالمية والأميركية إنما يكون من خلال إقامة تحالف وشركة مع الدول المنافسة للاقتصاد الصيني مثل اليابان واستراليا وكندا وماليزيا والمكسيك... الخ، وهو ما دفع ترامب حسب الخبراء إلى إعادة التفكير بالعودة عن قرار انسحابه من اتفاق التجارة عبر الهادي.
العامل الثالث: الضغط الذي مارسه لوبي المزارعين في الولايات الأميركية المتضررين من رفع الرسوم التي أثرت سلبا على تصدير المنتوجات الزراعية للمزارعين الأميركيين والحق أضرار كبيرة بمحاصيلهم التي باتت تواجه خطر عدم القدرة على تصريف الإنتاج وبالتالي تراجع أسعاره.
وتجلى هذا الضغط في الاجتماع الذي عقد في البيت الأبيض بين الرئيس ترامب ووزير الزراعة سوني بيردو وحكام الولايات وأعضاء من النواب الجمهوريين والديمقراطيين الذين يدعمون مطالب المزارعين .
العامل الرابع:تحرك مديري الشركات من بينها شركة لو كهيد مارتن لصناعات الدفاع واندرارمور لصناعة الملابس وايرليول لصناعة الأجهزة وتيسلا لصناعة السيارات الكهربائية وجونسون اندجونسون لصناعة مستحضرات التجميل التي تضررت من الحرب التجارية لصعوبة تصدير سلعها إلى دول المحيط الهادي، على الرغم من أن ترامب تعهد بخفض الضرائب من 15 إلى 20 في المئة بدلا من 35% شرط عدم نقل مصانعها خارج البلاد.
غير أن ترامب الذي لا يثبت على موقف وقرار يبدو أنه بدأ مسار التراجع أمام الصين أيضاً بعد أن قررت الأخيرة فرض رسوم انتقامية على السلع الأميركية مما أثار انتقادات لدى الشركات الأميركية المتضررة من سياسة فرض قيود على السلع المستوردة، حيث توقع الرئيس الأميركي التوصل إلى اتفاق مع الصين لوضع حد للحرب التجارية بين البلدين التي بدأها هو.
هذه النتائج المتولدة من سياسة ترامب باعلان الحرب التجارية بقصد حماية الاقتصاد الأميركي وتوفير فرص العمل لمئات آلاف الأميركيين في الولايات المتحدة يبدو أنها سلاح ذو حدين، ففي الوقت الذي تؤدي مثل هذه السياسة إلى استفادة بعض القطاعات الصناعية في الولايات المتحدة، فان قطاعات صناعية وزراعية أخرى يلحق بها الضرر الكبير لأنها تفقد القدرة على المنافسة في الخارج وبالتالي فان رفع رسوم في الدول الأخرى انتقاماً من رفع الرسوم الأميركية على سلعها، يؤدي إلى تراجع القدرة التنافسية للسلع الأميركية في الخارج واستطرادا تقليص مبيعاتها في الأسواق العالمية مما يؤدي إلى تراجع الانتاج والاضطرار إلى تسريح الكثير من العاملين في هذه القطاعات.
هذا على الصعيد العمالة، لكن هناك خسارة أخرى تكمن في تراجع معدلات النمو وهي المشكلة الأساسية التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي الذي تراجعت حصته من الناتج العالمي بنسب كبيرة نتيجة المنافسة الاقتصادية التي تواجه السلع الأميركية في الأسواق العالمية وبالتالي تراجع الطلب على هذه السلع لصالح السلع المنتجة في دول صاعدة اقتصاديا مثل الصين والهند وروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل.. الخ .
إن ذلك يؤشر إلى أن أميركا دخلت في أزمة بنيوية لا مخرج منها إلا إذا تعاملت معها من منطلق واقعي يرتكز إلى التسليم باستحالة عودة الاقتصاد الأميركي إلى ما كان عليه من معدلات نمو عالمية قياسية لان الزمن الذي كان فيه الاقتصاد الأميركي يهيمن على الأسواق ويحتكرها قد ولى، وما يحصل اليوم في دول إفريقية من تنافس بين الصين وأميركا لهو مؤشر قوي على ذلك، خاصة وان الصين تقدم لدول افريقية مشاريع تنموية مقابل حصول شركاتها على عقود للاستثمار فيها، على عكس أميركا التي تقوم شركاتها بعمليات استثمار ونهب لثروات هذه الدول، من دون أن تسهم في المساعدة على إقامة مشاريع تنموية تفيد هذه الدول وهو ما يجعل الدول الإفريقية تعزز علاقاتها مع الصين التي لا تتدخل في شؤون الدول على خلاف الولايات المتحدة التي تتدخل من أجل تغيير الحكام الذين لا يدينون بالولاء لسياساته وتوجهاتها الاقتصادية اللييرالية.