توقفت مليّاً عند قول الشاعر الأديب المفكر العربي الكبير أدونيس في حلقته الثانية على قناة الميادين في مراجعة حرّة، وجريئة لتجربته، وتجربة زملائه في إرساء مفهوم الحداثة في الشعر العربي إذ قال: "نحن من أخطائنا وأنا أعترف بهذا الخطأ أنّ تَأثُرَنا بمعايير الحداثة الخارجية كان أكبر بكثير من معاييرنا التي كان العرب يطرحونها، ويناقشونها منذ القرن الثاني الهجري مع أبي النواس، وابي تمام، وبقية الشعراء كابن الرومي، وكان هذا أحد أخطائنا في مجلة الشعر، ولم نركز على معنى الحداثة في الشعر العربي نفسه... الحداثة تمثلت في هذا الأفق الجديد الذي أسس له الشعر العربي بدءاً من القرن الثاني الهجري أي الثامن الميلادي قبل بودلير، ورامبو بكثير. هذا كان علينا أن ندركه بشكل أعمق، وأن نعمّق التجربة التي قامت في ذلك العصر، وهذا مالم نفعله مع الأسف واكتفينا بالأشكال الشعرية الموجودة في الخارج سواء من الجهة الفرنسية أو من
الجهة الإنكليزية لكن كان علينا أن نعمّق تجربتنا أولاً فيما يتعلق بالموروث لأن الشاعر لا يستطيع في أي لغة في العالم، وفي أي بلد في العالم أن يبتكر جمالاً جديداً في لغة يجهل تاريخها الجمالي. معظم شعرائنا مع الأسف كانوا يجهلون التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية فلا يمكن أن تجد أي شاعر حديث يقول لك أنا لا أقرأ فيكتور هيجو أو لا أقرأ شكسبير أو لا أقرأ غوته، بينما نجد الكثير من الشبان الشعراء يسخرون من الشعراء العرب القدامى دون أن يقرؤوا شعرهم...".
شكراً أدونيس لأنك وضعت إصبعك على أعمق جراح هذه الأمة، وأخطرها على الإطلاق ليس في مجال الشعر فقط وإنما في مجال الدين، والسياسة، والفكر، والعمارة، والزراعة، والصناعة، وتحرّر المرأة، وفي كل اختصاص يخطر لك على بال.
إنّ المتعّمق في أي من هذه الاختصاصات، وغيرها يدرك بعد برهة من البحث، والتقصيّ وجود فجوة هائلة بين ما قدمه المبدعون الأقدمون (قبل توقف الإبداع العربي بسبب الاستبداد السياسي، والتطرف الديني، والإستعباد الأجنبي)، وبين انسياقات
عصرية خلف مفاهيم، وتجارب غربية أساساً جاءت مع عصر الاستعمار دون أن يتمّ البناء أولاً على الموروث المحليّ، وحتى دون إجراء حوار ونقاش بين المعطيات التي نمتلكها، وبين ما نحتاج أن نتعلمه من الغرب، والنتيجة هي غالباً خليط هجين لا يستكشف غنى الواقع، كما لا يستورد أفضل ما أنتجه الآخرون. فإذا أخذت هنا موضوع حقوق المرأة مثالاً تجد ان معظم الحركات التحررية النسائية في العالم العربي بنت مفاهيمها على أساس ما أتت به حركات التحرر النسائية في الغرب رغم أنّ بعض منتجها يتنافى مع العقل، والمنطق، ومع الحياة الإجتماعية الطبيعية، والسليمة، ولم تقم رائدات التحررّ في العالم العربي بفهم، وسبر ما قدمته الجدّات العربيات في القرون الخالية من أدب، وشعر نسائي تحرري، وممارسة لتكافؤ الفرص ودور إيجابي في المجتمع يختلف بطبيعته عن درو المرأة الغربية لأنه ينتمي إلى ثقافة، وتاريخ مختلفين، ولكنه لا يقلّ أهمية في تحقيق الأهداف الإنسانية المنشودة للنساء. وإذا أخذنا موضوع العمارة مثلاً نجد أن العرب القدماء أنشأوا أساليب معمارية جميلة، وصديقة للبيئة،
ومناسبة جداً لتقيهم حرّ الصيف، وبرد الشتاء من خلال استخدام المواد الأولية المحلية التي جادت الطبيعة عليهم بها. وبدلاً من تطوير هذا الأسلوب، وتعميمه انتقلت معظم المدن العربية إلى أسلوب عمارة غربيّ لا يمت إلى جغرافيتنا بصلة، ولا علاقة له بالمناخ الذي نعيش فيه، وبقيت بعض المدن القديمة شاهداً على براعة العرب في التأقلم مع الجغرافيا، والمناخ، كما أنها شاهد على تقصير الأجيال الحديثة الشديد في فهم هذا الأنموذج المعماري، والبناء عليه، لا بل وتقديمه للعالم كأحد إنجازات العرب الهامة التي يمكن أن تستفيد منها البشرية جمعاء بدلاً من إهمالها إهمالاً مطلقاً، واستيراد نماذج أقلّ كفاءة، وجمالاً، وأعلى تكلفة في الإستخدام الطويل الأمد. والمعيار ذاته ينطبق على الزراعة، والصناعة، والسياسة، والتاريخ. فجميعنا يتوق إلى رائحة الفواكه، والخضار الشهية التي كانت تنتجها أرضنا قبل أن نستورد بذاراً أقلّ مذاقاً بكثير مما تنتجه بذارنا المحليّة، وقد أدركنا اليوم فقط أن حرب البذار حرب استعمارية حقيقية شرسة إذ أخذوا يصدّرون إلينا الخضار، والفواكه التي لا تنتج بذاراً بحيث نستورد البذار كلّ عام،
وبحيث تصبح البذار سلاحاً استراتيجياً ضدنا بينما كان الأقدمون يستخلصون بذارهم من منتجاتهم في كلّ عام، وكان هذا من بديهيات زراعة كافة الأصناف. وفي مجال الصناعة كان هناك في وقت من الأوقات سبعة آلاف نول لصناعة الحرير في دمشق فقط، بحيث أنّ الملكة فيكتوريا استقدمت البروكار الدمشقي لصناعة فستان عرسها، ولا زالت الآلة التي صنعت ذلك القماش موجودة في منزل دمشقي جميل، وكانت بريطانيا تبعث قناصلها لنقل آلات النسيج إلى مانشتسر. والحكم ذاته ينطبق على السياسة، والتاريخ أيضاً، والثقافة فكم شاهدت "مثقفاً" عربياً أو حتى مختصاً لا يذكر كتاباً عربياً يقرؤه حين يُسأل ماذا يقرأ بل يسارع إلى ذكر كتب أجنبية لقناعته أن ذلك يجعل منه مثقفاً أهمّ ممن يقرأ ابن خلدون، أو ابن رشد، أو ابن عربي! والمشكلة ليست في القراءة فقط وإنما في الكتابة أيضاً، والسؤال المهم هو من يوثّق لتاريخنا وقضايانا وأين هي الكتب الأساسية التي تُحدّث الأجيال، أو العالم عنّا، من نحن، وأين نحن، وما هي خارطة الطريق لهذه الأجيال الشابة في مختلف الاختصاصات والعلوم؟ خلاصة القول
في هذه العجالة، والموضوع أهمّ، وأخطر من أن تتمّ تغطيته هنا، أن أدونيس قد رمى حجراً في مياه راكدة آسنة، وأننا نحتاج إلى اختصاصيين، وذوي تفكير حرّ، وجريء كي يعيدوا مراجعة تاريخنا ليس السياسي فقط بل الديني، والثقافي، والعمراني أيضاً، ويكاشفوا الأجيال بأخطائنا وثغرات هذا التاريخ وادعاءاتنا علّ معالجة حقيقية تبدأ على أيدي مبدعين شباب، وشابات منتمين ويمتلكون من الدافع والعمر ما يسمح لهم بالتصدّي لهذه القضية الخطيرة الهامة، والتي لن تقوم للعرب قائمة مستقبلاً بدونها لأن البناء إلى حدّ اليوم يعاني من فجوات تهددّ بانهياره، ولا شك أنّ تشخيص المرض هو الخطوة الأولى لمعالجته ، وقد أعطى أدونيس إشارة هامة وجريئة في مجال الشعر فهل يمكن التوقف مليّاً اليوم، وبدء المراجعة في معظم العلوم والاختصاصات كي نوقف مسار التبعية، والإنهيار، ونؤسس لعمل حقيقي متين تستكمله الأجيال القادمة؟.