لو تجوّلت في شوارع بيروت وساحاتها وعاينت صور المرشحين الكثر على جدرانها ومعظمهم من الوجوه القديمة الشائخة والشابة والنسائية والإعلامية تحديداً لوقعت أسير أمرين:
أوّلاً: يبدو لبنان المقيم في هذا المسرح الإنتخابي البرلماني الواسع والمخيف وكأنّه يمرّ في مرحلة إنتقالية ضخمة. يعني الإنتقال بالضرورة التحول من نقطة إلى أخرى أو من زمن إلى آخر. ويفترض أن يحمل الإنتقال بالحدّ الأدنى ملامح تغيير أو تجديد بسيطة تضفي على الصورة وتضيف إليها ألواناً أي وجوهاً جديدة. طبعاً يفترض الإشارة إلى أنّ الإنتقالية تطاول الطبقة السياسية بالكامل لسببٍ جوهري مردّه إلى أن الأحزاب اللبنانية الضخمة والعريقة والكثيرة التي أمسكت أو تقاسمت البرلمان والوزارات والإدارات والحياة السياسية في لبنان قد شارف مؤسسوها أو زعماؤها على الحلول في الشيخوخة إلى درجة أنّها تمرّ كلّها بالشعور المقيت الذي يفؤض عليها التساؤل ولو سرّاً عن مستقبل تلك الأحزاب في المرحلة المقبلة. وأكثر من ذلك هناك أسئلة شعبية وإعلامية مطروحة علناً وعلى مستوى الطوائف والمذاهب في لبنان كالقول مثلاً: ما هو مستقبل الشيعة والمسيحيين بعد حزب الله وحركة أمل و التيار الوطني الحر في المستقبل؟
وتأخذ هذه الأسئلة مشروعيتها من أسئلة مشابهة سبق أن طرحت من قبل حول مستقبل حزب الوطنيين الأحرار بعد كميل شمعون وحزب الكتلة الوطنية بعد ريمون إده. تطرح هذه الأسئلة وأخرى كثيرة مشابهة وأكثر تعقيداً لسببين أولهما إخفاق المسؤولين عن الحياة السياسية والتغيير والتطوير في أكثر من مجال حيوي لا داعي لتعدادها وتبدأ بأبسط الحقوق العادية للمواطن وأدناها حق الحياة بكرامة. وثانيهما أننا نشهد لإنتخابات برلمانية تغمرها ردود الأفعال الصاخبة والغاضبة سواء من المرشحين العاديين من الناس الذي يمكن تسميتهم بأبناء ىوبنات الطامجين إلى التغيير وفقاً لما كشفته وسائل الإعلام وعصر العولمة وربيع العرب والمجتمعات المدنية والجمعيات الدولية ودخول الخارج المباشر إلى الحياة الإجتماعية اللبنانية عبر ملف النازحين السوريين والتخطيط والتشجيع للشباب والشابات على خوض الترشح والإقتراع والتحدّي ورفع الصوت في الحقوق والواجبات ومحاربة الفساد والفاسدين.
المذهل هو التحالفات الغريبة العجيبة بين المتخاصمين جذرياً وإستراتيجياً في إختيار المرشحين أو جمعهم صورياً في لوائح فرضها قانون إنتخابي لامس النسبية لكنه إستغرق في المفاضلة المذهبية التي ستبعد الطوائف والمذاهب والمناطق مسافات عن بعضها البعض. لقد إستهلكت الدولة برامج وميزانيات لتلقين المواطنين كيفية اللعب باللوتو قبل تشريعه وبسطه، وهي تدخل اللبنانيين إلى النسبية ومعظم المرشحين لم يتعلّموا بعد كيفية الإقتراع أو إحتساب النتائج. ينصاع اللبنانيون إلى صيغة تكرّس مقدّسات الطوائف التي تبدو وكأنها تسحب لبنان بسرعة فائقة نحو ما يشابه تجدد الحروب أو نحو تجديد الكلام عن التقسيم والشرذمة
والخوف من أسباب قد تحول دون إجراء الإنتخابات بسلام. كان آخرها ما جرى من أحداث مقلقة في زحلة والطريق الجديدة من بيروت في التعدّي على بعض المرشحين.
ثانياً: يمكنني في هذا المجال الطريف والمضحك تقديم أسماء ووقائع لكنّ المقام والإحترام يحولان دون ذلك. هناك تلازم ملحوظ للبذخ الهائل والميزانيات الضخمة وشراء المقاعد كما الأصوات مقابل الشح المدقع في إبراز صور المرشحين وحملاتهم وعدتهم الإنتخابية. قد تجد مثلاً مرشّحاً إلى البرلمان قد طلس وجه الأبنية والأحياء وحجب النظر بصوره الضخمة وشعاراته وحكمه الكبرى المنسوخة عن كتب الحكم القديمة لمن يعرف، مقابل مرشّح آخر لم يجد سوى شرفة منزله العتيق في البناء المشقق لرفع صوره التي لا ترى بالعين المجردة من بعد، بالرغم من إنتقاد زوجته له لهذه المغامرة غير المحسوبة نتائجها كلّما جلسا على الشرفة لتناول قهوة الصباح. قد تجد قوافل من العمّال السوريين الموكل إليهم تعليق حمل السلالم وإعتلاء الشاحنات الضخمة الرفع الصور والشعارات وقد تجد مرشح أو مرشّحةً تتناول سطل الغراء بنفسها من صندوق سيارتها المتواضعة قبل طلوع الضوء لتروح بإلصاق صورها الصغيرة أو حشرها في الزوايا. مرشح يحوّل دنياه إلى مآدب عشاء وتخمة وكرم جاذب للغير وكلّما تحرك موكبه هرب الناس إلى الأرصفة والبيوت وأحكموا غلق أبوابهم وكأنّ الحروب قد حلّت من جديد. بالمقابل تجد مرشحاً يذهب سيراً إلى ناخبيه وفي المساء يذهب إلى تناول القهوة في مقهى الروضة على شاطيء البحر، يلعب النرد، ويساير الناس، وعندما تتعب أنامله من السبحة ينام ليعاود نهاراً جديداً من النقد والصراخ الذي لا يبلغ شحمة أذنه.
وأخيراً بات مستحيلا جعل الشباب اللبنانيين إنتظار مراحل الإنتقال بإنتظارالتغيير بعدما إستيقظوا وبُحت حناجرهم صراخاً على الحرية والسيادة والإستقلال والعدالة والمساواة وإندفعوا بحماس على طريق البرلمان .