أصدرت المفكرة القانونية وجميعة "سكر الدكانة" بيانا جاء نصه: أحد الأسئلة الكبيرة بعد صدور قانون الشراكة بين القطاعين الخاص والعام: "من يدافع عن الدولة؟" وتحديدا، غداً حين تتضاعف عقود الشراكة بين هذين القطاعين، من سيضمن حماية حقوق الدولة، فلا تتحول هذه الشراكات إلى أداة جديدة لاقتناص أموالها؟ وما هي قدرة مؤسسات الدولة الحالية في الدفاع عن حقوق الدولة؟ وما هي المجالات المفتوحة للمواطنين للقيام بذلك؟ من شأن القرار الصادر في قضية "الدولة ضد سكّر الدكّانة" بتاريخ 18 نيسان 2018 أن يعطينا أجوبة كثيرة في هذا السياق.
وقبل المضيّ في تبيان ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه القضية بدأت فصولا حين نشر موقغ سكر الدكانة تقريرا حول شبهة فساد حصلت في أحد مشاريع مجلس الجنوب بما يقارب 30 مليون دولارأ أميركياً. وقد استمدّت الجمعية معلوماتها من مصادر عدة، أبرزها تقرير مفصلمن حوالي 80 صفحة صادر عن مفتشين في هيئة التفتيش المركزي منذ 2010 يبين حجم المخالفات المرتكبة. ويلحظ أن تقرير التفتيش كان أُرسل آنذاك إلى كل من النيابة العامة المالية وديوان المحاسبة، ولم نعرف أي متابعة له.
بعد أيام من نشر التقرير، تحرّك مجلس الجنوب إعلاميا ومن ثم قضائيا. وبالفعل، بناء على طلبه، طلبت هيئة القضايا (وهي الهيئة التي يفترض أن تدافع عن حقوق الدولة) من قاضي الأمور المستعجلة في بيروت إصدار عريضة بإلزام جمعية سكر الدكانة بإزالة التقرير المنشور عن موقعها الإلكتروني ومنع التداول بالمعلومات المطلوب إزالتها أو نشرها بأي وسيلة.وقد علّلت طلبها بأن هذا النشر يسيئ إلى الدولة. وإذ بادر قاضي الأمور المستعجلة السابق إلى ذلك، قدمت سكر الدكانة اعتراضا على الأمر الصادر بحقها أمام الهيئة القضائية نفسها التي باتت ترأسها القاضية هلا نجا تبعا لتشكيلات 2017. خلال القضية، استبسل محامي الدولة (المعين من قبل هيئة القضايا) وبحثّ من إدارة مجلس الجنوب في الدفاع عن القرار المطعون فيه، على نحو يخلّ بأسلوب الدولة المفترض كخصم شريف في التعامل مع المواطنين وأيضا بمصلحة الدولة والتزاماتها الدولية على حد سواء.
وقد انتهت القضية بالحكم الذي أصدرتهقاضية الأمور المستعجلة في بيروت هلا نجا بتكريس حرية التعبير، وبخاصة حرية الكشف عن الوقائع التي يحتمل ارتباطها بأعمال فساد، طالما أن الدولة لم تثبت وجود أي نية شخصية في الإساءة في مجلس الجنوب أو التعرض له.
ومن هذا المنطلق، تضمن القرار أبعادا ثلاثة بالغة الأهميّة:
البعد الأول، وهو واضح ومباشر، إقرار حقها في الكشف عن الفساد،
البعد الثاني، وهو أيضا واضح وإن غير مباشر، وهو تذكير ممثلي الدولة بأن دفاعهم لا يتناسب مع مصلحة الدولة ولا التزاماتها الدولية،
البعد الثالث، وهو ضمني أيضا، وقوامه حماية كاشفي الفساد.
أولا، الإقرار بحق الكشف عن الفساد:
منذ فترة، نشهد قرارات عدة صادرة عن قضاة الأمور المستعجلة بمنع نشر معلومات يستشف منها شبهة سوء إدارة أو فساد بحجة كرامة الأشخاص أو المؤسسات المعنية. هذا ما حصل بداية في هذه القضية حيث صدر أمر على عريضة بمنع التداول بالمعلومات المتصلة بشبهة الفساد الحاصلة في تنفيذ أحد مشاريع مجلس الجنوب. وقد اكتفى العديد من هذه القرارات بمنع نشر المعلومات لمجرد أن من شأنها الإساءة إلى سمعة أحد الأشخاص من دون البحث فيما إذا كان النشر مبررا أو غير مبرر بمصلحة عامة. وقد بدت هذه القرارات وكأنها تغلب مقتضيات السمعة الشخصية على مقتضيات حرية التعبير، بشكل كبير، مع ما يستتبع ذلك لجهة حجب المعلومات ومنع التداول بها، بما فيها وبوجه خاص المعلومات المتصلة بالفساد.
الأمر نفسه سعى إليه ممثلو الدولة في هذه القضية (هيئة القضايا ومحامي الدولة). فقد أصروا على وجوب منع المعلومات لعدم جواز المس بسمعة المؤسسات الكبيرة في الدولة. وفيما أبرزت سكر الدكانة تقريرا صادرا عن التفتيش المركزي، فإنهم أصروا على موقفهم بحجة أن هذا التقرير سري وأن التحقيقات لم تنته بعد وأنه لا يجوز نشر أي معلومة تتصل بالفاسد أو بشبهة فساد قبل صدور حكم قضائي نهائي في قضية معينة.
وقد عارضت سكر الدكانة هذا الطب على خلفية أن لهاالحق في الكشف عن الفساد على أساس أن ثمة حالات يصبح معها نشر المعلومة (ولو كانت سرية) ضروريا، سيما في حالات مشابهة، حيث أن تقرير التفتيش وُضع منذ أكثر من ثماني سنوات منذ 2010 مما يؤكد على وجود نية في منع مسار التحقيق وإعاقته. فهل يأتي الصمت ليتوج لفلفة الملف وإعاقة التحقيق؟
وقد جاء الحكم بمثابة انقلاب على الاتجاه الغالب من مواقف قضاة الأمور المستعجلة السابقة في هذا الخصوص واستكمال لعدد من القرارات الرائدة الصادرة عن بعض قضاة الأمور المستعجلة سابقا، وأبرزها قرارات صادرة عن قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف. ومن أهم ما أثبته الحكم، هو أن حرية التعبير (التي هي المبدأ) تتوسع متى تعلقت الأخبار بمسألة ترتبط بالشأن العام وتؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حقوق المواطنين ومن أبرزها الفساد، وأنه يقتضي تغليب هذه الحرية وحق الوصول إلى المعلومات على المحافظة على السمعة في هذه القضايا. وقد أسند الحكم موقفه على المادة 13 من الدستور والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد.
وتبعا لهذه القواعد، قلب الحكم قاعدة الإثبات لاعتبار قاضي الأمور المستعجلة صالحا لمنع النشر. فليس على من ينشر معلومة في أن يقدم إثباتا على صحتها لرد الدعوى المستعجلة بمنع نشرها، بل على المتضرر منها أن يثبت عدم صحتها، وأن الدافع لنشرها هو مجرد الإساءة والتشهير للوصول إلى مبتغاه. وقد خلص الحكم بالنتيجة إلى السماح بنشر المعلومة مجددا بعدما اعتبر أن ممثلي الدولة لم يقدموا أي إثبات من هذا النوع.
ثانيا،أن الحكم يفرض إعادة النظربعمل هيئة القضايا التي تتولى الدفاع عن الدولة أمام المحاكم وتصويبه، وخاصة حين استندإلى المادة 13 من اتفاقية مكافحة الفساد. فكيف يجب أن تتصرف هيئة القضايا حين يردها طلب من مؤسسة رسمية تدعوها فيه لاتخاذ خطوات لمنع التداول بمعلومات بشأن فساد فيها؟ وكيف يجدر أن يتصرف محامي الدولة المعينون منها في قضية مماثلة حين دفاعهم عن الإدارة المذكورة؟
في القضية الحاضرة، سارعت هيئة القضايا إلى تبني طلب مجلس الجنوب من دون ممارسة أي تدقيق في هذا الطلب، فعينت محاميا ذهب في الاتجاه نفسه مؤكدا أن التقرير حمل "افتراءات ومعلومات غير صجيحة ومغلوطة وأن الهدف من التقرير هو فقط التعرض لمجلس الجنوب وضرب جميع إنجازاته".
ثم عاد ممثلو الدولة ليؤكدوا على ضرورة إلقاء الضوء على إنجازات المجلس التي لا تحصى. وذهبوا إلى حدّ المطالبة بإخضاع الجمعية للتحقيق لمعرفة كيفية حصولها على التقرير. لا بل لم يجدوا حرجا في إبراز كتاب صادر عن مجلس الجنوب في هذه القضية طالب ب "إقفال الدكاكين خاصة تلك الممولة من السفارات والمليئة بالجواسيس والذين يخطفون اصوات المجتمع المدني الوطنية والصادقة ويمارسون التشويش في كل زمان ومكان. وكذلك يجب إقفال الدكاكين وأبواق الفتنة وزرع التفرقة وتشويه القيم والإسفاف الخلقي والاجتماعي والتطاول على كرامات الناس..".
ثم عادت الدولة لتعتبر أن كل ما نشر، نشر لوجود "رغبة في النفوس المريضة التي دأبت على المس بكرامات الناس وإهانتهم وتشويه سمعتهم" وأنه "لا يجوز تحت أي ظرف مشبوه إفساح المجال لهؤلاء المندسين بالقيام بتشويه كرامات الناس قدحا وذما وتحقيرا لغايات سياسية وربما طائفية أو مذهبية من شأنها أن تؤدي إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية".. لتختم "أن البلد بغنى عن تلك المشاكل".
وتاليا بدا ممثلو الدولة وكأنهم لا يعملون وحسب على منع التداول بالمعلومة والتستر عليها، ولكن لا يجدون حرجا في تشويه سمعة كل من تسول له نفسه الكشف عن معلومات لديه تتصل بالفساد واتهامه بكل الموبقات، طبعا من دون أي دليل.
فكأنما دور ممثلي الدولة هو تبخير كل ما يحصل في أجهزة الدولة، والهجوم على كل من ينشر معلومات عن فساد في أي من أجهزتها. وهم بذلك خرجوا ليس فقط عن مبادئ الخصم الشريف الذي يتوجب أن يتعامل مع خصومه باحترام وأن يلتزم بسرد الوقائع كما هي من دون تحريف وتحوير، بل خلطوا بين مصلحة جهاز في الدولة (تحوم حوله شبهات فساد) ومصلحة الدولة من دون أن يفكرواحتى أن دفاعهم غير المشروط عن هيئة تحوم حولها شبهات فساد، هو بالواقع موقف مؤذٍ للدولة وحقوقها، فدافعوا عن هذا الجهاز بشراسة وبقوا على شراستهم حتى حين أبرزت الجمعية مستندات التفتيش المركزي.
في ختام هذا الدفاع الشرس الذي قاده ممثلو الدولة، جاء الحكم القضائي ليرد بهدوء وببلاغة على غلوائهم، مذكرا إياهم بأن الدولة التي يمثلونها إنما التزمت باتفاقية مكافحة الفساد التي تحملها بموجب مادتها 13 ثلاثة واجبات أخلت بها كلها وهي وجوب "تشجيع الأفراد والجماعات على المشاركة النشطة في مكافحة الفساد ومحاربته" و"إذكاء وعي الناس بوجود الفساد وأسبابه" و"احترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها".
وقدشكل الحكم بذلك ليس فقط إدانة ضمنية بليغة لكل تصرفات ممثلي الدولة في هذا الخصوص، ولكن كشف حقيقة مرّة آن الأوان للتصدي لها وهو سوء دفاع ممثلي الدولة عن حقوق هذه الأخيرة في هذه القضية إلى درجة تصرّفهم على نحو يخلّ ليس فقط بمصلحتها ولكن أيضا بإلتزاماتها الدولية.
وهذا الأمر إنما يطرح سؤالا ثانيا بالغ الأهمية وهو: ضرورة التفكير بآليات جديدة لحماية مصالح الدولة وحقوقها، وتحديدا لتصويب عمل هيئة القضايا ومحامي الدولة المعينين منها ومنع استخدامهم لما يتناقض مع مصلحة الدولة أو مع الخير العامّ. فيصب دفاعهم في ما يخدم مكافحة الفساد وليس مكافحة من يكافح الفساد.
ثالثا، ثمة بُعد ثالث يظهر في خفايا القرار. ففيما أصرّ ممثلو الدولة على وجوب فتح تحقيق لمعرفة من سرب تقرير التفتيش المركزي، لم يتخذ الحكم أي تدبير في هذا الخصوص، موجها بذلك دعوة ضمنية للمجلس النيابي لحماية كاشفي الفساد من أي ملاحقة.
هذه هي الأبعاد الثلاثة للحكم الذي يؤمل أن يشكل أساسا لعمل المنظمات الحقوقية والإعلامية والقضاء المستعجل وهيئة القضايا مستقبلا. فتحية لمن أصدره".