ليس مصطلح "الطعن" جديداً في قاموس الانتخابات النيابية اللبنانية، بخلاف غيره من العبارات التي استحدثها القانون الجديد، ولم يستوعبها الكثير من الناخبين حتى اليوم، من "الصوت التفضيلي" إلى "الحاصل الانتخابي" و"العتبة الانتخابية"، وغيرها.
فعلى مدى التجارب الانتخابية السابقة، كان "الطعن" موجوداً، إلا أنّه كان "محصوراً" بشكل عام بطعن المرشحين الخاسرين بالنتائج التي تعنيهم، ويكون موجّهاً ضد أحد منافسيهم على المقعد نفسه، ليس إلا، وكان هذا الطعن يقدَّم بعد إعلان نتائج الانتخابات بطبيعة الحال.
اليوم، يبدو أنّ التغييرات التي أحدثها القانون الجديد وصلت إلى مفهوم "الطعن" بحدّ ذاته، حتى أنّ ثمة من يقول إنّ الانتخابات باتت برمّتها مهدَّدة، بل إنّ "الطعن" بها، من حيث ديمقراطيتها ونزاهتها، بات جاهزاً، نظراً لفداحة الانتهاكات والمخالفات المرصودة، قبل أن تدقّ ساعة الانتخابات!
شهود زور؟!
عند إقرار القانون الانتخابيّ النسبيّ مع الصوت التفضيلي، هلّل الخبراء الانتخابيّون لبعض "الإصلاحات المحدودة" التي نصّ عليها، والتي سقط معظمها بالضربة القاضية مع الوقت، من البطاقة الانتخابية التي اختلف الفرقاء على تسميتها بين ممغنطة وبيومترية إلى أن أطاحوا بها، مروراً بالتصويت مكان السكن، ومراكز الاقتراع الكبرى أو "ميغا سنتر" وغيرها.
رغم كلّ شيء، بقي وجود هيئة إشراف على الانتخابات عنصراً "إصلاحياً" أساسياً بنظر كثيرين، لعوامل عديدة، بدءاً من ديمومتها بعدما كانت في السابق مؤقتة، وصولاً إلى شموليتها باعتبار أنّ الهيئات السابقة كانت محصورة بالإشراف على الحملات الانتخابية، فيما أوحى اسم الهيئة الجديدة بأنها ستشرف على الانتخابات برمّتها. ولعلّ الأهم من هذا وذاك، "الاستقلالية" التي منحها القانون للهيئة، بحيث لم تعد تتبع كلياً لوزير الداخلية كما كان في السابق، وإن أبقاها القانون "رهينة" له باعتبار أنّها يجب أن تمارس مهامها "بالتنسيق معه"، "إيجابيّة" عزّزها وجود ممثل للمجتمع المدني في الهيئة، للمرّة الأولى في تاريخ الانتخابات اللبنانية.
وعلى طريقة "شهد شاهد من أهله"، بدأ يتبيّن أنّ هذه "الإيجابية" لم تكن أكثر من "ضحك على الذقون"، بل إنّ هذه الهيئة تكاد تكون عنصر الطعن الأول والأهمّ بالانتخابات. فإذا كانت استقالة ممثلة المجتمع المدني فيها، رئيسة اتحاد المقعدين اللبنانيين سيلفانا اللقيس، أكثر من معبّرة على هذا الصعيد، هي التي رفضت أن تكون "شاهدة زور" على مصادرة صلاحياتها، فإنّ تصريحات رئيس الهيئة القاضي نديم عبد الملك، على قلتها، لا تبدو أقلّ وقعاً. الرجل قال بالحرف الواحد إنّ "لا صلاحية للهيئة على مرشحي السلطة"، وفي ذلك انتهاكٌ فاضحٌ لبديهيات ديمقراطية الانتخابات، إذ أوحى وكأنّ الهيئة تمارس صلاحياتها فقط على مرشحي المعارضة والمجتمع المدني، الأمر الذي يقضي على مبدأ تكافؤ الفرص.
وإذا كان كلام عبد الملك أظهر أنّ أعضاء الهيئة باتوا جميعاً بمثابة "شهود زور" على الانتهاكات لنزاهة العملية الانتخابية، فإنّ أسئلة كثيرة تُطرَح أصلاً عن صلاحيات الهيئة، المحصورة بمراقبة الاعلام والانفاق الانتخابيّين، وحتى في هذين المضمارين، حصل تضييقٌ كبيرٌ عليها من جانب الحكومة، التي تأخّرت في إقرار موازنتها، ما منعها من ممارسة عملها بالشكل المطلوب، وفي الوقت المناسب، وبالتالي جعلها مقيَّدة ومكبَّلة.
انتهاكات بالجملة!
انطلاقاً من ذلك، لم يعد سؤال "أين هيئة الاشراف على الانتخابات؟" الذي يتكرّر على ألسنة الكثير من المرشّحين ينتظر الجواب، إذ بات واضحاً أنّ الهيئة التابعة لوزيرٍ مرشحٍ للانتخابات، في مفارقةٍ كافية وحدها للتشكيك بالانتخابات برمّتها، ولو نصّ القانون على غير ذلك، هي هيئة شكلية، تسعى قوى السلطة لاستغلالها لمنح الانتخابات "صدقيّة"، في حين أنّها لا حول لها ولا قوة، لدرجة أنّها لم تستطع حتى القيام بدورها في "التثقيف الانتخابي" الذي نصّ عليه القانون.
ولعلّ من المفارقات البارزة وربما الفاقعة على هذا الصعيد أيضاً، إضافة إلى استقالة اللقيس وتصريحات عبد الملك، ما قاله الأخير الأحد بعد تعرّض الصحافي علي الأمين، المرشح إلى الانتخابات عن بنت جبيل، إلى الضرب، بأن لا صلاحية للهيئة على مثل هذه الاعتداءات، وكأنّ الحادثة، وغيرها من الحوادث المشابهة التي باتت تتكرّر بوتيرة يومية، لا علاقة لها بالانتخابات، أو ربما هي مبرَّرة بـ"عدّة الشغل" كما جاهر البعض، وأنّ الهيئة ليست مخوّلة حتى الإشارة إليها في تقاريرها.
عموماً، إذا كان مسلّماً به أنّ هناك من أراد "تحجيم" هيئة الاشراف ومنعها من القيام بالحدّ الأدنى من الدور المطلوب منها، فإنّ ما لم يعد خافياً على أحد أنّ "الانتهاكات" التي تشهدها الانتخابات لم تعد بحاجة لا لتوثيق هيئة ولا لمن يحزنون، بدءاً من مجالات عمل الهيئة في الانفاق الانتخابي، الذي بات واضحاً أنّه يتخطى في الكثير من الحالات السقوف "القياسيّة" التي نصّ عليها القانون أصلاً، رغم أنّه شرّع ظلم مرشحين على حساب غيرهم، تماماً كما شرّع الرشاوى والأموال الانتخابية، وهو ما ترجم أصلاً بظاهرة حضور "المتموّلين" في هذه الانتخابات بشكلٍ لم يسبق له مثيل.
ويُضاف إلى هذه الانتهاكات، انتهاكاتٌ أخرى لا يفترض أن يكون وقعها أقلّ من الاعتداءات الموثّقة على المرشّحين وحملاتهم في مختلف المناطق، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً بالعاصمة بيروت، وصولاً إلى الهجوم المتكرّر على صور المرشحين وحملاتهم الاعلانية، من دون أن ننسى تخطي أسقف الخطاب الانتخابيّ الحدود المسموح بها في القانون، ووصولها إلى حدّ القدح والذم والتجريح في الكثير من الحالات، علماً أنّ لا أحد يشكّ في أن حجم المخالفات والانتهاكات سيزيد أكثر في الأيام الفاصلة عن اليوم الانتخابي في السادس من أيار.
لا نزاهة ولا من يحزنون
من بوابة هيئة الاشراف "الشكلية" على الانتخابات، إلى هيئات المراقبة المحلية والدولية، تسعى الحكومة التي تشرف "عملياً" على الانتخابات إلى إضفاء نوع من "النزاهة" على العملية الانتخابية، وصبغها بـ"ديمقراطية" لا تبدو واقعيّة لا في الشكل ولا في المضمون.
وإذا كان كافياً أنّ أكثر من 16 وزيراً من الحكومة هم أصلاً مرشحون إلى الانتخابات، ويستغلون نفوذهم في إدارة حملاتهم الانتخابيّة، للتشكيك في نزاهة العمليّة، ولو شرّع القانون ذلك، فإنّ الأكيد أنّ الانتخابات المنتظرة منذ تسع سنوات "مطعونٌ بها" سلفاً.
وعلى الرغم من أنّ مثل هذا "الطعن" موثَّقٌ وأكثر، إلا أنّ الأمل يبقى محدوداً بترجمته عملياً قبل أو بعد الانتخابات، على اعتبار أنّ "السلطة" التي فصّلت القانون على قياسها ستبقى متحكّمة بكلّ شيء، وهنا بيت القصيد...