هي "صدفة غير بريئة" تلك التي جعلت "الطعن الكتائبي" بقانون الموازنة للعام 2018 يتزامن مع توجيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لرسالة "إعادة النظر" التي أعلن قبل أيام نيته إرسالها إلى المجلس النيابي لمراجعة المادة 49 من الموازنة التي أثارت ما أثارته من جدل لم ينته فصولاً بعد...
وإذا كان وجود نائبين من تكتل "التغيير والإصلاح" هما جيلبرت زوين ويوسف خليل في عداد النواب الموقّعين على الطعن، بعدما نقلا "البندقية" من كتف إلى آخر إثر تخلي "التيار الوطني الحر" عنهما، هو الآخر ليس بريئاً، فإنّ الأكيد أنّ القصة تتعدّى مخالفات الموازنة وأخطار التوطين، إلى آخره من العبارات الرنّانة.
القصة ببساطة هي قصة "قلوب مليانة" بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الكتائب"، في ضوء "الحرب الشعواء" التي يخوضانها عشية الانتخابات النيابية المقبلة، على الرغم من أنّ الصورة العامة لا توحي بخطرٍ كبير يشكّله أحدهما على الآخر، أقلّه بالمقارنة مع قوى أخرى تلتزم الحياد، أو لعلّها تنأى بنفسها بكلّ بساطة...
أبعد من المزايدات...
لم يكد المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية يعلن توجيه الرئيس ميشال عون لرسالته "الموعودة" حول الموازنة إلى المجلس النيابي بواسطة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، حتى كان حزب "الكتائب" يعلن أن رئيسه سامي الجميل توجّه إلى المجلس الدستوري لتقديم الطعن "الموعود" بالموازنة، ليسلك طريقه نحو المتابعة القانونية، ويقرّر عون وبري في ضوئه "التريّث" في مقاربة الرسالة الرئاسية.
بطبيعة الحال، فإن التزامن بين الحدثين ليس "بريئاً"، بقدر ما يعكس "سباقاً محموماً" بصبغة "انتخابية" لا غبار عليها بين الجانبين، في زمن المنافسة "غير الشريفة" كما يرى البعض، زمن باتت فيه الانتخابات النيابية تتحكم بالشاردة والواردة، ولم يعد أحد يبحث سوى عن استثمار انتخابي هنا وتوظيف انتخابي هنالك، بما يمكن أن يرفع حجم الأصوات التفضيلية.من هنا، لا يمكن عزل ما حصل عن الصراعات الانتخابية المحتدمة والآخذة في التصاعد بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الكتائب"، في ضوء المناوشات شبه اليومية بينهما، علماً أنّ ردّة فعل جمهور "التيار" على خطوة الجميل تبدو خير دليلٍ على هذه المقاربة.
ففيما يصرّ "الكتائبيون" على عدم تضخيم القضية، ويضعونها في إطارها المحصور باعتبار الطعن "إنجازاً" في حدّ ذاته، وأنّ الجميل قدّمه تلقائياً بمجرّد نجاحه في جمع عشرة تواقيع عليه، نافين أيّ أبعادٍ انتخابية مبالَغ بها، على اعتبار أنّها ليست المرّة الأولى التي يمارسون فيها حقّهم البديهيّ بالطعن بالقوانين، يرى "التيار الوطني الحر" الأمر جزءاً من المزايدات الشعبوية التي لن تفيد "الكتائبيين" في الموسم الانتخابي. وفي وقتٍ كان واضحاً أنّ "التيار" لم يهضم أن يكون عضوان في تكتل "التغيير والإصلاح" من الموقّعين على الطعن، ولو جمعتهما "المصلحة الانتخابية" مع "الكتائب" بعيداً عن أيّ "مبدئية" لطالما نادى بها الأخير، ثمّة من يعطي الموضوع أبعاداً أكبر وأخطر، وصولاً لمحاولة "إحراج" رئيس الجمهورية، على الرغم من أن الأخير يحيّد نفسه عن سابق تصوّر وتصميم عن الدهاليز الانتخابيّة، وهنا بيت القصيد.
جولة مفصلية
بمعزلٍ عن المسار الذي ستسلكه قضية الموازنة، ومصير المادة 49 الجدلية فيها، يمكن القول إنّ ما حصل لم يكن سوى جولة تضاف إلى سلسلة جولات المعارك "غير الودية" بين "الكتائب" و"الوطني الحر"، اللذين لم يستطع القانون الانتخابي النسبيّ أن يجمعهما ولو في تحالفٍ محدودٍ بدائرة أو اثنتين، مع كلّ عجائب وغرائب التحالفات التي شرّعها، خصوصاً بالنسبة إلى "التيار الوطني الحر" الذي لا تزال تحالفاته مستغرَبة ومستهجَنة بنظر كثيرين، ممّن لم يستوعبوا التقاءه مثلاً مع "الجماعة الإسلامية" وغيرها.
وإذا كان هذا الأمر يدلّ على شيء، فعلى أنّ "الانسجام" لا يزال غائباً بين "التيار" و"الكتائب"، وأنّ العلاقات بينهما لا تزال على حالها من السوء، علماً أنّ الأمر ليس مرتبطاً بالانتخابات النيابية، بل إنّه سابقٌ لها، وقد وصل إلى أوجه في انتخابات رئاسة الجمهورية، حين غرّد الكتائبيون، وحيدين، خارج السرب المسيحي والوطني، رافضين منح العماد ميشال عون أصواتهم، ولو بدأ قبل ذلك، وتحديداً مع إبرام التفاهم الشهير بين "التيار" و"القوات اللبنانية"، ورفض "الكتائب" الالتحاق به بأيّ شكلٍ من الأشكال.
وإذا كان الجميل كسب جولة الموازنة، على الأقلّ في الظاهر، فإنّ "الحرب" لم تنتهِ فصولاً على ما يبدو، بل ثمة من يقول إنّ "جولة الحسم" ستخاض في الانتخابات النيابية المقبلة على امتداد المناطق المشتركة بينهما، لكن تحديداً على أرض المتن حيث الصراع على "الزعامة" له رمزيته بنظر كثيرين. ولعلّ "حرب المناشير" التي خاضها "الكتائبيون" في وجه النائب إبراهيم كنعان، شكّلت "بروفا" المعركة أو عنوانها، إذ لم يعد خافياً على أحد أنّ النائبين كنعان والجميل يخوضان صراعاً "على المنخار" على صدارة الساحة المتنية، لجهة عدد الأصوات التفضيلية، باعتبار أن فوزهما شبه محسوم، إلا أنّ "الزعامة" لها رمزيتها أيضاً، وثمة من يقول أنّ من أجلها قد تغيب استراتيجية توزيع الأصوات التفضيلية، ولو أدّى ذلك لخسارة "الشركاء".
معركة تفضيلية!
صحيح أنّ العلاقة بين "حزب الكتائب" و"التيار الوطني الحر" لم تكن في حالٍ أفضل على مدى السنوات القليلة الماضية، وبالتالي فإنّ الصراع بينهما ليس انتخابياً صرفاً، ولكنّ الصحيح أنّ "الحساسيات" بين الجانبين آخذة في التصاعد أكثر وأكثر في الفترة الأخيرة.
من "حرب المنشور" التي استثمرها كلّ فريقٍ لصالحه، إلى "حرب الموازنة" التي قد تلقى المصير نفسه، تبقى الأنظار مشدودة نحو المعركة الانتخابية المتنية، معركة سيكون لأصواتها التفضيلية الكلمة الفاصلة، وإن كان أكيداً سلفاً أنّها لن تنهي التجاذبات بين الجانبين...