هذه المرة لم يكن قداسة البابا هو المستهدف بسبب إدانته لقصف النظام السوري على الغوطة (علما أنه لا يجب أن ننسى أن البابا كان أول من رفض الحرب الأميركية على دمشق، وربما هو الذي بمواقفه قد أوقفها)، إنما المستهدفون كانوا بطاركة سوريا الذين أصدروا بيانا دانوا فيه حرب الإرهابيين على دمشق وحيّوا الجيش العربي السوري، مما حدا بالبعض إلى تسمية البيان بـ"بيان الإذعان المذل المنحاز إلى نظام إرهابي متوحش".
وها قد صحّ المثل القائل: "إن شَتّت ابكي، وإن صحت ابكي". فالكنيسة إن دانت قصف الأبرياء في الغوطة ينتقدها البعض وإن دانت قصف الإرهابيين على دمشق ينتقدها البعض الآخر.
فهل جاء بيان البطاركة ليرطّب أجواء تصريحات البابا الصادر منذ أسابيع؟ وهل فيه ما يعاكس موقف رأس الكنيسة؟.
الحقيقة أن البابا معه حق، والبطاركة معهم حق. فإذا جمعنا موقف البابا إلى موقف البطاركة نجد أن الكنيسة ترفض الحرب والدمار. الفرق أن الذي يأكل العصي ليس كمن يعدّها. بالنسبة لمن يعيش في سوريا لا بد له من خيار واضح. إما النظام كما هو حاليا، حتى ولو كان بحاجة إلى تعديلات كثيرة، وإما الفوضى، ولم يعد هناك من لا يعلم نتيجة الفوضى وما حصل بسببها في العراق وليبيا وغيرهما؟.
من هنا فإن موقف الكنيسة يجب أن يكون مفهوما:
فالكنيسة عندما تدين قصف الغوطة لا تدين الجيش الوطني، إنما تدين التعدّي عمدا أو سهوا على الأبرياء مهما كان دينهم أو انتماؤهم. وعندما تدين الإرهابيين لا تتكلم عن ثوار شرفاء يرغبون بتحسين النظام، إنما تدين مجموعات من المخرّبين عاثوا بالأرض فسادا وهجروا الناس وهدموا الحضارة مستعملين الدين لأجل مصالح فئوية واقتصادية وسياسية وطائفية.
أما أنت يا أخي يا من تنتقد هنا وتسئ هناك، فإنني أدعوك إلى احترام مواقف الآخرين وإبداء رأيك ومواقفك باحترام. إن كلامك السيّئ ومواقفك الهدّامة والسلبيّة لن تكون حلاً، لا بل ستزيد الطين بلّة.
إذا كنت منظّرا من على أريكتك، فإن البيان صادر ممن يعيشون تحت القصف أياما عصبية وقد طالت القذائف بيوتهم وكنائسهم ورعيتهم.
إذا كنت تريد حماية الإرهابيين الذين تعتز بأعمالهم وثورتهم وتعتبرهم ديمقراطيين ومدافعين عن حقوق الناس، فخذهم إلى بيتك، ولن يمنعك أحد.
إذا كنت سياسيا، فاصمت! أرجوك. لأنّ من الواضح أن ما يُسيّرك هو مصلحتك الشخصية فأنت اليوم ضد النظام وغدا معه، وبالأمس معه وضده، ولو عملت سابقا بالحقّ والعزّة لما فيه خير السلام والعدالة لم وصلنا إلى ما نحن عليه.
إذا كنت محلّلا عسكريا، فهل تريد أن يقف المواطنون إلى جانب من يهجّرهم وينكّل بهم بشكل فاضح وواضح ضد جيشهم؟.
وإذا كنت بيّاع مواقف، فنعذرك، واعذرنا... لن نشتري منك! لكن لا بد أن تعرف أن الكنيسة تصلّي كل يوم من أجل الأبرياء والفقراء الذين تدّعي أنك لم تسمع يوما من قبلها بيانا ينصفهم.
أما إذا كنت تتكلم رأفة بالضحايا فأنا معك، ضد كل من يشهر سلاحا بوجه فقير أو ضعيف أو بريء، والكنيسة كلّها معك ضد الأنظمة المتوحّشة والإرهاب الغاشم، ودعوتها دوما إلى الحل السلمي بالحوار والتفاهم. والله أيضا معك!.
وبكل حال فليست الخيارات المتاحة سهلة أمام ما يعصف بالعالم من انقسام يلهو به تجار المال والسلاح. ولعلّ السؤال الكبير: هل من حل؟ هل يكون في استفتاء الشعب؟ وهل يمكن أن يصح استفتاءٌ حيث لا حرية ولا عدالة ولا قبول للآخر بدينه ومعتقده على قاعدة المساواة مع مواطن من دين آخر أو من فكر آخر؟!.
تعالوا نقولها بصراحة ولو كلفتنا كثيرا: حاضرنا نتيجة ماضينا، وحربنا نتيجة مفاهيمنا، ووضعنا بين شاقوفين(1) نتيجة تربية فاشلة حكمت بلادنا! فلو قامت كنائسنا وجوامعنا بإدانة كل ظلم واستبداد ودعت إلى التلاقي في ظل أنظمة مدنيّة عادلة لا تمييز فيها بين مواطن وآخر، ولم تتلهّى بالفانيات، أما كان حالنا أفضل مما هو عليه؟ والله أعلم!.
نعيش أمل السلام مهما اشتدت المأساة، ندعو إلى التسلح بالحوار بدلا من التسلح بالنار، وندعو إلى الحب ونرفض كل حرب.
وإلى ذلك الحين، ستبقى الكنيسة بين شاقوفين، لكنها ستبقى شقيفا عصيّا على التشقيف، صامدا بوجه أي إرهاب وبوجه أي نظام لا يحترم كرامة الناس ولا يقيّم العدالة والسلم، وبوجه كل كلام مغرض. هذه رسالتها، وهذه هي.!
(1)الشاقوف هو المطرقة الضخمة الحديدية التي تستعمل لتكسير الحجارة. الشقيف هو الصخر الضخم المنحدر من الجبل.
*الأب عبدو رعد رئيس دير روما للرهبانية المخلّصيّة