صحيح اننا في لبنان نعيش ضائقة اقتصادية ومالية ليست عادية، وصحيح اننا بحاجة الى المساعدات والهبات من اجل ان نستعيد عافيتنا ونبدأ مسيرة النهوض، وصحيح اننا نترقّب ما ستؤول اليه الاوضاع في المنطقة والتي ستنعكس حتماً علينا وعلى دول الجوار، ولكن صحيح ايضاً اننا في موسم الانتخابات النيابية، ما يعني ان اموراً غريبة جداً تحصل وستحصل، ولا تمتّ الى المنطق بصلة.
موسم الانتخابات اقتحم السوق اللبناني، ومنذ قرابة الشهرين، والبلد يعيش هاجس النيابة والنواب والقانون الجديد، وهو امر طبيعي وعادي. ولكن، الغريب والعجيب في الموضوع اننا توجهنا الى دول العالم عبر مؤتمر "سيدر" في باريس طلباً للمساعدة المادية من اجل تعزيز اقتصادنا وتحسينه، فيما نظرة بسيطة على الاعلام والشوارع في كافة المناطق، والاستماع للحظات قليلة الى كلام المرشحين والمسؤولين، كلها امور كفيلة بتغيير النظرة الى واقعنا.
حملات اعلانية عملاقة ومتكررة حلّت مكان اعلانات الطعام والشراب والسلع الاستهلاكية والترويج للمشاريع السياحية والاعمارية وغيرها... كلها للتعريف على مرشحين للانتخابات غالبيتهم الكاسحة من الوجوه النيابية نفسها التي رافقت اللبنانيين سنوات طويلة ومديدة، وباتوا يعرفونها اكثر من اقاربهم، دون ان يخفى على احد التكلفة الكبيرة التي يجب دفعها لمثل هذا الكمّ من الاعلانات وبهذا الحجم، دون ان ننسى ان قانون الانتخاب الجديد أَلزم وضع صورة المرشح واسمه بشكل كامل في اللائحة التي سيقترع لها الناخب، ما يعني ان الصور ستلاحق الناخبين الى داخل اقلام الاقتراع، ولا حاجة لنشرها على الطرق في كل المناطق. اما المهرجانات الانتخابية، فحدّث ولا حرج عن كلفة التنظيم وحشد المؤيدين والمناصرين. وللاعلام ايضاً حصته من الموضوع اذ يمكن القول ان وضع الكثير من وسائل الاعلام تحسّن بشكل كبير جراء الموسم الانتخابي عبر استضافة مرشحين والترويج لهم، فيما كنا نتحدث منذ فترة غير بعيدة عن "نكسة" تلاحق الاعلام والاعلاميين، ما ادى الى اغلاق بعض المؤسسات الاعلامية وتوقف اخرى عن العمل بشكل موقت او دائم.
ولكن "المصيبة" الابرز في المسألة الانتخابية، تكمن في كلام الجميع-من مسؤولين رسميين ومرشحين ومواطنين- عن الرشاوى الانتخابية، وهي افظع صورة يمكن ان نعطيها عن هذه الانتخابات، بعد ان تغنّينا باقتراع المغتربين وبريادة لبنان الديمقراطية في دول المنطقة. اي صورة ننقل الى العالم عندما نتحدث عن رشاوى الناخبين، او تحذيرهم من وجوب عدم قبض مبالغ مالية من المرشحين والاحتكام بدل ذلك الى ضميرهم وحسّهم الوطني؟ كيف اقنعنا الدول العربيّة والعالميّة بأننا فعلاً بحاجة الى أموال كي ننفذ مشاريع اقتصادية ونخلق فرص عمل كفيلة بتجاوز الازمة الاقتصادية، فيما يتم صرف مبالغ مالية خياليّة على الانتخابات من قبل مرشحين لبنانيين، أكان ذلك عبر اكتفائهم الذاتي او عبر من يدعمهم؟ هل صرف هذه الكمية من الاموال على الحملات الاعلانية افضل من صرفها او استثمارها على مشاريع تعود بالفائدة على الوطن والمواطن؟ وهل استفاد لبنان من هذه الاموال ام انها ذهبت الى اشخاص محددين فقط، حتى ان غالبية اللبنانيين لم يستفيدوا منها؟.
قد لا تصل قيمة الاموال التي خصصت للانتخابات الى 11 مليار دولار وهي النتيجة التي خرج بها مؤتمر "سيدر"، انما لا يمكن الاستهانة بالمبلغ الذي تم صرفه والذي يكفي حتماً للبدء، على الاقل، بمشروع حيوي من المشاريع التي عُرضت على المؤتمر، يمكن ان يضيء شعلة من النور في النفق المظلم الذي نمرّ فيه.
ان الموسم الانتخابي، ينبىء بأن العقلية لن تتغيّر رغم الامل بأن نشهد مجلساً نيابياً افضل من الذي سبقه، ولو ان قسماً كبيراً من المرشحين يبقى نفسه من جهة، وان الباقين ينتمون في المجمل الى احزاب وتيارات اختبرناها... وما اضيق العيش لولا فسحة الامل.