لم يقع "الطلاق الانتخابي" بشكلٍ كامل بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل، كما كان متوقّعاً قبل بدء طبخ التحالفات بصورة جدية. تحالف الرجلان في أكثر من مكان، من العاصمة بيروت إلى البقاع الغربي، مروراً ببعبدا.
هو تحالفٌ محدودٌ ربما، وقد لا يعني الكثير بالنظر إلى عجائب وغرائب التحالفات في هذه الانتخابات، التي شهدت على تلاقي أقصى اليمين مع أقصى اليسار في بعض الدوائر، بيد أنّ المفارقة اللافتة فيه أنّه، بخلاف غيره من التحالفات، لم يترجَم "هدنة"، ولو مؤقتة، بين الجانبين.
وإذا كان حديث بري عمّن "يبرغت" معطوفاً على سمفونية باسيل اليومية عن "الفساد"، خير دليلٍ على استمرار "الحرب الكلامية" بين الجانبين، فإنّ الواضح أنّ عين كلّ منهما على ما بعد الانتخابات، لتصفية الحسابات التي لم تنتهِ فصولاً بعد...
معارك مفصليّة...
لأنّ تحالف بري وباسيل، في المبدأ، هو المُستغرَب لا العكس، بالنظر إلى تاريخ الخلافات، أو ما يصطلح على تسميتها بـ"الكيمياء المفقودة" بينهما، فإنّ مجرّد حصول هذا التحالف ولو في دائرة واحدة، يمكن أن يعني الكثير، بخلاف الواقع بين أطراف أخرى، قد يكون التحالف بينها مجرّد "رفع عتب"، كما هو الحال مثلاً بين "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية".
لكن، وبعيداً عن هذا المنطق، فأنّ معاينة بسيطة لهذا "التحالف" توحي وكأنّ "القدر" فرضه عليهما، من حيث لا يدريان أو يتحسّبان، لاعتبارات ودوافع شتّى. ففي بيروت مثلاً، لا شكّ أن إصرار "تيار المستقبل" على خوض المعركة وحيداً، في منطقةٍ تُعتبَر مركز ثقله الأساس، جعل "الوطني الحر" مخيّراً بين الالتحاق بالثنائي الشيعي القادر على المنافسة، أو اللوائح الأخرى التي يتهمها "المستقبل" أصلاً بأنّها لا تفعل شيئاً سوى خدمة "حزب الله"، لأنها لن تكون قادرة على تأمين الحاصل الذي يؤهّلها الحصول على مقعد. وإذا كان الأمر نفسه يسري بشكلٍ أو بآخر على بعبدا، حيث كانت المصلحة بالتحالف متبادلة بين الطرفين، فإنّ التحالف في البقاع الغربي الذي سقط بالمِظلّة قد يكون الأكثر تعبيراً، خصوصاً بعدما ترشح نائب رئيس المجلس النيابي الأسبق إيلي الفرزلي على لائحة الوزير السابق عبد الرحيم مراد "يتيماً" قبل أن يتبنّاه باسيل في اللحظة الأخيرة، بعدما تخلى عنه "المستقبل" وتحالف مع "القوات" على حسابه.
ولعلّ ما يعزّز فرضية التحالف غير المستند إلا إلى الظروف والقَدَر، يكمن في المعارك "المفصلية" التي يخوضها بري وباسيل وجهاً لوجه في أماكن أخرى، وفي مقدّمها جزين، حيث يقال إن المعركة "على المنخار" بينهما، تماماً كما كانت في العام 2009، ولو كانت فرص مرشح بري، إبراهيم عازار، هذه المرّة أكبر بكثير من تلك التي حصل عليها والده النائب الراحل سمير عازار. وانطلاقاً من ذلك، لا مبالغة في القول إنّ ثمّة قناعة لدى البعض بأنّ باسيل اختار المواجهة مع حليفه "حزب الله" في بعض الدوائر لتسجيل موقف ليس إلا خصوصاً بعد تركه يصارع وحيداً في جزين، وبعد إعلان الحزب صراحه تبنّيه لخيار بري على حسابه، وهو ما يحصل مثلاً في بعلبك الهرمل وجبيل ودوائر أخرى.
الموعد بعد الانتخابات
عمومًا، تبدو المعركة الانتخابية بين بري وباسيل مجرّد تفصيل ثانوي في سياق "معركتهما الكبرى" التي لا يبدو أنّها انتهت فصولاً بعد التصعيد الذي شهدته في الآونة الأخيرة، على الرغم ممّا يُتداوَل في الكواليس السياسية عن مبادرة يستعدّ "حزب الله" لإطلاقها بعد طيّ صفحة الانتخابات لتقريب وجهات النظر بين حليفيه، علماً أنّ كثيرين حكموا سلفاً على مثل هذه "الوساطة" بالفشل، انطلاقاً من التجارب السابقة، التي تجعل الحزب وغيره يتريّثون ويعدّون للعشرة قبل محاولة رأب الصدع بين "حليفي الحليف".
ويكفي للدلالة على ذلك، ما يحكى عن خارطة سياسية جديدة ستتبلور بعد الانتخابات، أياً كانت نتائجها، تكرّس الصدام بين بري وباسيل، من خلال تموضع الأول إلى جانب القوى السياسية المعارضة للعهد، والتي تشمل تيار "المردة" وحزب "الكتائب"، إلى جانب "القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، علماً أنّ هناك من يعتقد أنّ بري نفسه مهّد لمثل هذا الخيار من خلال توفيره ما يشبه "الغطاء" حتى لخصميه في السياسة، أي "القوات" و"الكتائب".
يوحي كلّ ذلك بأنّ الرجلين يستعدّان من الآن إلى استحقاقات ما بعد الانتخابات بنَفَسٍ صدامي، من معركة رئاسة المجلس النيابي، التي قد يجد نفسه "التيار الوطني الحر" وحيداً في مواجهة بري، ولو كان يحرص على ترك الأمر لحينه، إلى معركة مكافحة الفساد، في ظلّ تعمّد الوزير باسيل تكرار الكلام عن "الوعد الصادق" الذي أطلقه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على هذا الصعيد، بما يشبه "التحدي" إن جاز التعبير، على اعتبار أنّ خوض هذه المعركة لا يحتمل أيّ "رمادية"، كرمى لعيون "حليف" هنا أو هناك. وبين الاستحقاقين، استحقاقٌ قد يكون الأكثر "دسامة" على الإطلاق، يتمثل بتشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، وما بدأ يُحكى في الكواليس سلفاً عن "المداورة" في الحقائب، وعن موقع حقيبة المال على وجه التحديد وسط هذه المعمعة، في ظلّ تمسّك بري المعروف بها، بل بشخص الوزير علي حسن خليل على رأسها.
"بلطجة"... فـ"برغتة"!
لم ينه بري وباسيل تصفية حساباتهما بعد. الواضح أنّ هذه الحسابات سابقة لفيديو "البلطجي" الشهير، ولاحقة له، وإن رُكِنت جانباً اليوم، كرمى لتحالفٍ انتخابيّ لا يبدو ملموساً سوى على الورق فقط، لا في الخطابات، وبالتأكيد لا في النفوس أيضاً.
وإذا كان البعض اعتبر الحديث عن "برغتة" رداً على "البلطجة" في مكانٍ ما، فإنّ الأكيد أنّ "المعركة" بين الرجلين مقبلة على المزيد من "التشويق" في المرحلة المقبلة في ضوء استحقاقاتها الكثيرة، "تشويق" يبقى رغم كلّ شيء "رهينة" المشهد الذي ستفرزه الانتخابات، وإن كان مرجَّحاً أنه سيتفوّق عليها وعلى حماوتها في آن واحد!.