إثنان من أركان الحكم يحرصان على الخروج من المعركة الانتخابية من دون فقدان أوراق القوة: الرئيس ميشال عون (عبر «التيار الوطني الحر») والرئيس سعد الحريري. ولكن، وفيما «البرتقالي» يخوض المواجهة بتوتّرٍ سياسيٍّ داخلي، في المتن وجبيل- كسروان خصوصاً، وبروحيّة «يا قاتل يا مقتول»، يبدو الحريري وكأنه «يُتكتك» انتخابياً... من دون أن ينسى العنوان السياسي للمعركة: إنهم يستهدَفوننا!
كان لافتاً قول أحمد الحريري في أحد اللقاءات الشعبية، قبل أسابيع: «طوال 13 عاماً حاولوا قتلنا وتفجيرنا وإلغاءنا. نحن مستهدَفون لأننا خطّ الإعتدال، ولأننا ندخل كل المناطق والمذاهب. ولكن، سنتصدّى لمحاولاتِ التسلّل الهادفة إلى ضربنا. ولذلك، على جمهورنا أن يصوِّتَ بكثافة».
هذا «التسلّل» هو الذي دفع الرئيس سعد الحريري- على الأرجح- إلى شنّ حملته العنيفة ضد مرشحين معيّنين في بعض الدوائر الانتخابية. ووفق الأوساط «المستقبلية»، «نحن لا نتوتّر كسوانا في المعارك السياسية ذات الطابع الداخلي، ونفضّل الهدوء. لكننا بالتأكيد مستنفَرون ضد القوى التي تستهدفنا، والتي لها «مرشحوها» ضدنا في بيروت وطرابلس وعكار وسواها.
وفي الأيام الأخيرة، عمد الحريري إلى شدّ العصب «المستقبلي»، والسنّي عموماً، في مواجهة هؤلاء المرشحين، المدعومين من قوى خارج الحدود. وهو يدرك أنّ خطابَه ينسجم مع طروحات قواعد تيار «المستقبل»، والقواعد السنّية عموماً، وأنّ تأثيراته ستكون فعّالة في المعركة.
وقد ظهرت معالمها في الدوائر الآتية:
• في طرابلس - المنية - الضنية وعكار: فوجئ الجميع بحجم التفاعل الشعبي مع خطاب الحريري وحلفائه على الساحة السنّية، مقابل حضور أدنى للخصوم. وهذا ما يوحي بأنّ هؤلاء باتوا أكثر ارتياحاً لمعركتهم في الدائرتين.
• في الهرمل، يطمح الحريري إلى مواجهة ذات مغزى رمزي مع اللواء جميل السيد في المقعد الشيعي، ولكنه يدرك صعوبة ذلك بسبب طبيعة قانون الانتخاب. فيما يصبح ممكناً إيصال مرشح «القوات» أنطوان حبشي وأحد مرشحي «المستقبل» بكر الحجيري أو حسين صلح عن المقعدَين الماروني والسنّي.
• في البقاع الغربي، يطمح الحريري- بالعنوان السياسي أيضاً- إلى مواجهة عبد الرحيم مراد بمرشحَيه السنّيَين زياد القادري ومحمد القرعاوي، ومواجهة إيلي الفرزلي بمرشحه الأورثوذكسي غسان سكاف، معتمداً على مقدار من التعاطف المسيحي، وخصوصاً في داخل قواعد «القوات» و14 آذار مع هذا الاتّجاه.
• في بيروت الثانية، الحريري «في بيته». ولذلك، المواجهة مكشوفة بين لائحته ولائحة 8 آذار. وفيها يرفع الحريري عنواناً سياسياً واضحاً وحاسماً.
• في صيدا، المنافس السنّي الوحيد للنائب بهية الحريري هو أبرز حلفاء «حزب الله»، المهندس أسامة سعد الذي يستعدّ للمعركة بهدوء. ولذلك، بالنسبة إلى الحريري، لم تعد المواجهة تحمل عنوان: مَن الفائز؟ بل، مَن الأقوى صيداوياً: الحريريون أم حلفاء «حزب الله»؟
في الأوساط الحريرية يقولون: «على رغم كل هذه الضغوط السياسية علينا، فإننا «نتكتك» انتخابياً بهدوء. لن نتوتر. وما يطمئننا هو أنّ جماهير «المستقبل» في انتخابات 2018 لم تتقلّص عمّا كانت عليه في انتخابات 2009 و2005، وأنّ وضعية التشرذم التي أصيب بها بعض شرائح «التيار» خلال وجود الحريري لسنوات في الخارج قد تبدّدت.
وربّ ضارة نافعة. فأزمة الاستقالة، في تشرين الفائت، انعكست إيجاباً على الحريري، والجماهير التي تهافتت إلى «بيت الوسط» لاستقباله عند العودة إلى بيروت، كانت «عيِّنة» من جماهير «المستقبل» في بيروت والدوائر الـ15، من الجنوب والبقاع الغربي إلى طرابلس وعكار».
بالنسبة إلى هذه الأوساط، «لا مشكلةَ زعامةٍ سنّيةٍ لدى الحريري. وإذا ما تقلََّص حجم كتلته النيابية - كما يعتقد بعض الخبراء- فإنّ ذلك لا يعبِّر عن انحسار الشعبية بمقدار ما يعبّر عن اختلاف النتائج بين قانون الـ60 الأكثري والقانون النسبي المعتمَد حالياً. ففي القانون السابق، كانت الكتل القوية تجتاح الدوائر بالمحادل، فيما اليوم هناك أمكنة للضعفاء أيضاً.
وخلافاً لما اعتقده كثيرون، استطاع الحريري أن يشكّل لوائحَ كاملة في الدوائر السنّية الكبرى، فيما تجرّأ على لعب أوراق قوية «بين النقاط» في لوائح أخرى:
في الشوف والبقاع الغربي تحالف مع جنبلاط، فيما تحالف في حاصبيا مع إرسلان.
وفي الشوف وبعلبك ـ الهرمل تحالف مع «القوات»، فيما تحالف في زحلة وبيروت الأولى والبترون - الكورة مع «التيار الوطني الحرّ».
وأما في صيدا فقرّر مواجهة الطرفين المسيحيَين معاً.
وهكذا، وفيما كتلة «التيار الوطني الحر»- «كتلة العهد»- تنتظرها سخونة غير مسبوقة بعد الانتخابات، يستعدّ الحريري هادئاً لخوض غمار المرحلة المقبلة، وأوّلها تشكيل الحكومة. وهي ليست سهلة. لكنّ مصلحته تقتضي الحفاظَ على الحال التوافقية بين أركان الحكم. وسيكون ميدانُ عمله الأساسي هو «التقليع» بالاقتصاد الذي وصل إلى الخط الأحمر.
الفارق بين «تيار رئيس الحكومة» والتيار المحسوب «تيار العهد» هو أنّ الأول يدرك أنه سيبقى مدعوماً من الجميع بعد الانتخابات، وأن لا خصومة مباشرة وحادّة بينه وبين أحد.
وأما «التيار البرتقالي» فيخوض المواجهة الحادّة مع الأقربين والأبعدين:
يهاجم القوى المسيحية جميعاً في المتن والبترون - الكورة - زغرتا - بشري، و»يتَزاعَل» مع «حزب الله» في جبيل - كسروان، ومع بري جنوباً، ومع الحريري في جزين.
وفي الأيام الأخيرة، هاجم الوزير جبران باسيل الجميع، في دائرة 360 درجة، و»لم يترك له صاحباً ولا للصلح مطرحاً»، وهو يتحدّى الجميع في كل شيء.
وفي لقاء المتن الانتخابي، وصل صوتُه إلى كسروان- جبيل، واعظاً ومهاجماً كل الناس… لكنّ تياره، مثلاً، لم يعلن الاستجابة إلى المناظرة العلنية، أمام الصحافة، التي دعا إليها خصمُه جان لوي قرداحي، بعد ظهر اليوم، وحدّد مكانها في جبيل، بين أركان اللوائح المتنافسة، لتبيان الحقائق، بعيداً من الصراخ والديماغوجيا!
وبعد الانتخابات، ستكون المرحلة صعبة على الأرجح. «البرتقالي» سيكون مشحوناً جداً، لكنّ الأزرق سيكون أقلّ توتراً. فالأول يخوض رهانات التحدّي بلا ضفاف، والثاني يدرك أنّ موقعه محفوظ بالتوازن السياسي، وأنّ دورَه ليس مرهوناً بحجم كتلته النيابية… إلّا نسبياً.