على الرغم من الحديث العلني عن إنتهاء مرحلة الإنقسام العَمودي في لبنان، بعد إنفراط عقد تحالف قوى "14 آذار" من جهة(1)، وعقد تحالف قوى "8 آذار" مع "التيّار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى(2)، فإنّ من غير المُمكن تجاهل واقع تبدّل مَوازين القوى في المجلس اللبناني، أقلّه بالنسبة إلى التموضعات السياسية الكبرى. والمُقارنة بين أحجام الكتل النيابيّة التي كانت سائدة إثر إنتخابات العام 2009، وتلك التي ظهّرتها إنتخابات العام 2018 النيابيّة تُثبت هذا المنحى. فهل صحيح ما يتردّد بأنّ مجلس النواب صار بقبضة "حزب الله"، بصفته المُحرّك الرئيس لمُختلف الكتل والشخصيّات المُنضوية ضُمن "محور المُقاومة"؟.
بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّه ليس بسرّ أنّ مجموعة من المواقف والتصاريح، منها إسرائيلية ومنها إيرانيّة وغيرها، تقاطعت في ما بينها للدلالة على التحوّل لصالح "حزب الله" في ما خصّ المجلس النيابي اللبناني المُنتخب، وهو ما أكّده أمين عام "الحزب" السيّد حسن نصر الله بشكل غير مُباشر بخطابه الأوّل بعد إعلان نتائج الإنتخابات، عندما قال إنّ "تركيبة المجلس النيابي الجديد تُشكّل ضمانة وحماية وقوّة كبيرة لحماية خيار المُقاومة" وإنّ "ما كُنّا نتطلّع إليه منذ بدء السباق الإنتخابي تحقّق وأنجز".
وبلغّة الأرقام، فإنّ القوى التي كانت محسوبة على فريق "14 آذار"، أو على الأقل التي كانت غير محسوبة على "محور المُقاومة"، ضُمن مجلس نوّاب العام 2009، كانت تتكوّن بشكل أساسي من "تيّار المُستقبل" (33 نائبًا)، وحزب "القوات اللبنانيّة" (8 نواب)، وحزب "الكتائب اللبنانيّة" (5 نوّاب)، وحزب "الوطنيّين الأحرار" (نائب واحد)، يُضاف إليهم نوّاب "اللقاء الديمقراطي" (11 نائبًا)، و"الجماعة الإسلاميّة" (نائب واحد)، بمجموع 59 نائبًا، وذلك من دون إحتساب نائبين ضمن كتلة "تيّار العزم" وتسعة نوّاب آخرين كانوا مُصنّفين مُستقلين. أمّا في مجلس نوّاب العام 2018، تراجعت كل من كتلة "تيّار المُستقبل" الموسّعة من 33 إلى 19 نائبًا فقط، وكتلة "الكتائب" من 5 إلى 3 نوّاب، وكتلة "اللقاء الديمقراطي" من 11 إلى 9 نواب، وخرج حزب "الأحرار" من المجلس، في حين بقيت "الجماعة الإسلاميّة" مُمثّلة بنائب واحد. والإستثناء الوحيد طال كتلة "القوات" التي تضاعف عددها من 8 إلى 16 نائبًا. وبذلك صار المجموع الجديد 48 نائبًا للنوّاب غير المحسوبين على "محور المُقاومة"، ومرّة جديدة من دون إحتساب كتلة "تيّار العزم" التي إرتفع عددها من 2 إلى 4 نوّاب حاليًا، والنوّاب المُصنّفين مُستقلّين في المجلس النيابي المُنتخب ومنهم على سبيل المثال لا الحصر فؤاد مخزومي، والفائزة بإسم "المُجتمع المدني" النائب بولا يعقوبيان، إلخ.
في المُقابل كانت القوى المحسوبة مباشرة على "محور المُقاومة" تتكون من كتلة "الوفاء للمقاومة" (13 نائبًا)، وكتلة "التنمية والتحرير" (13 نائبًا)، وكتلة "لبنان الحرّ الموحّد" (4 نوّاب قبل خروج النائب السابق إميل رحمه)، و"الحزب القومي السوري" (نائبان)، وحزب "البعث العربي الإشتراكي" (نائبان)، والحزب الديمقراطي اللبناني (نائب واحد)، بمجموع 35 نائبًا. وبتحالف قوى "8 آذار" المذكورة، مع تكتّل "التغيير والإصلاح" الذي يضمّ "التيّار الوطني الحُرّ" إضافة إلى حزب "الطاشناق" (23 نائبًا)، كانت قادرة على حشد 58 نائبًا في المجلس النيابي السابق. أمّا في مجلس نوّاب العام 2018، فقد إرتفع هذا الرقم بشكل واضح. وفي هذا السياق، وإضافة إلى 12 نائبًا حزبيًا مُلتزمًا يُشكّلون كتلة "حزب الله" الحالية إضافة إلى النائب الوليد سكريّة، يُمكن أن يرتفع العدد من 13 نائبًا إلى أعلى من ذلك بحسب عدد المُستقلين الذين قد ينضمّون إلى كتلة "الحزب". وعلى خطّ مُواز إرتفعت كل من كتلة "حركة أمل" من 13 إلى 17 نائبًا، وكتلة "الحزب القومي" من نائبين إلى ثلاثة نوّاب، وصار كل من "حزب الإتحاد" و"التنظيم الشعبي الناصري" و"جمعيّة المشاريع الخيريّة الإسلاميّة" مُمثّلين بنائب لكلّ منهم، بينما سُجّل خروج حزب "البعث العربي الإشتراكي" من المجلس. وعلى الرغم من تراجع كتلة "لبنان الحُرّ الموحّد" من 4 إلى 3 حاليًا، فإنّه من المُرشّح توسّعها بشكل واضح بانضمام بعض النوّاب المُصنّفين "مُستقلّين" حاليًا إليها. وبالتالي، وإضافة إلى ما مجموعه 39 نائبًا يُحسبون مباشرة على "محور المقاومة" وينتمون إلى أحزاب أو كتل سياسيّة، يُمكن إحتساب العديد من النوّاب الفائزين "المُستقلّين" بحسب التسمية التقليديّة المُعتمدة، على "محور المُقاومة"(3)، ما سيرفع العدد الإجمالي لهؤلاء إلى رقم كاف لتأمين "الثلث المُعطّل". وفي حال تحالف هؤلاء النوّاب مع "كتلة لبنان القوي" التي صارت تضمّ حاليًا 29 نائبًا، من بينهم 18 حزبيّين و4 ملتزمين لكن غير حزبيّين(4)، إضافة إلى 7 نوّاب حلفاء(5)، فإنّهم سيتجاوزون النصف زائدًا واحد بفارق كبير، لكن من دون الوُصول إلى ثلثيّ مجلس النواب.
وفي التقييم النهائي، نعم الثقل السياسي لما يُعرف بإسم "محور المُقاومة" تعزّز بشكل واضح وملموس في مجلس نوّاب العام 2018، لكن ليس إلى درجة تُخوّله السيطرة على الأغلبيّة العدديّة في مجلس النواب إلا في حال مُجاراته من قبل تكتّل "لبنان القوي" الذي صار قادرًا أكثر من السابق على قلب موازين القُوى الداخليّة من ضفة إلى أخرى. وإذا كان صحيحًا أنّ التجارب التي تمّت منذ العام 2005 حتى اليوم، أثبتت أنّ لبنان لا يُمكن أن يُحكم بشكل فردي أو ثُنائي، بسبب تعقيداته الطائفيّة والمذهبيّة بموازاة تلك السياسيّة، فإنّ الأصحّ أنّ تأثير "حزب الله" والقوى الحليفة له صار أقوى نيابيًا من أيّ وقت مضى، والخط الإنحداري لقوى "14 آذار" السابقة داخل المجلس واضح، ويتحمّل مسؤوليّته بالدرجة الأولى "تيّار المُستقبل"، بفعل تخبّط خطابه السياسي وتدهور علاقاته مع القوى الحليفة.
(1) نتيجة جملة من الأسباب بدءًا بتمايز كل من حزبي "الكتائب" و"التقدمي الإشتراكي" وُصولاً إلى تكاثر الخلافات بين "تيّار المُستقبل" وحزب "القوات اللبنانيّة".
(2) بسبب إستحكام الخلاف بين "الوطني الحُرّ" وكل من "حركة أمل" و"تيّار المردة"، بشأن ملف رئاسة الجمهورية وأسلوب إدارة الحكم، إلخ.
(3) منهم على سبيل المثال لا الحصر: فيصل كرامي، جهاد الصمد، عبد الرحيم مراد، عدنان طرابلسي، جميل السيّد، ادي دمرجيان.
(4) كل من ميشال ضاهر، نعمة إفرام، فريد البستاني، وحتى شامل روكز الذي لا يحمل بطاقة حزبيّة.
(5) كل من إيلي الفرزلي، طلال أرسلان، ميشال معوّض، مُصطفى علي حسين، هاغوب ترزيان، ألكسي ماطوسيان، وهاغوب بقرادونيان.