من الحالات التي تستدعي التحليل في الإنتخابات النيابية الأخيرة، هي نتائج حزب الكتائب اللبنانية. فكيف أن حزباً ملأ رئيسه الشاشات طوال الأشهر السابقة، ونجح في أكثر من طعن دستوري كان رأس حربته، وحمل مطالب الشعب في عشرات المؤتمرات الصحافية والمداخلات والتصريحات، ونظّم حملة إعلانية واسعة تمهيداً للإنتخابات حملت شعار «نبض الناس» وصراخهم، كيف بعد كل هذا تتراجع مقاعده النيابية من خمسة الى ثلاثة، وكيف لم ينجح في تحقيق خرق مميّز لا على الصعيد الشعبي، ولا على الصعيد الإعلامي؟ الأمر لافت وهو حتماً موضوع درس عند حزب الكتائب أولاً، كما عند متتبّعي حركة الرأي العام اللبناني.
قد يجيب البعض بأن قانون الإنتخابات النيابية الحالي يتطلب تحالفات وتكتلات سياسية، وهذا ما لم يقم به رئيس الكتائب، لا بل رفضه، إنطلاقاً من رغبته في بناء صورة جديدة للحزب تخرج عن الصورة التقليدية للطبقة السياسية اللبنانية التي أراد التمايز عنها تأكيداً «لعذرية» ما زال الشيخ سامي يفاخر بها، لأنه لم ينغمس في صفقات الطبقة السياسية منذ دخوله الحلبة السياسية.
قد يكون غياب التحالفات السياسية وراء جزء من الخسارة، لكن هذا السبب لا يبرّر وحده النتيجة. لذلك لا بد من التعمّق في التحليل بحثاً عن الأسباب الأخرى والتي قد تكون الأهم.
يبدو الشيخ سامي وكأنه يختصر حزب الكتائب. فلا غيره تقريباً على الساحتين الإعلامية والسياسية، والقيادات التاريخية للحزب باتت غائبة عن أذهان الناس. مرافقو الشيخ بيار المؤسس، الجيل الأول، باتوا خارج الدائرة، ومن آخرهم إيلي كرامه وإدمون رزق.
ورفاق الشيخ أمين، الجيل الثاني، هم أيضاً خارج الحلبة ومنهم سجعان قزي. والجيل الثالث مع الشهيد بيار الجميل ومنهم ميشال مكتّف باتوا في مكان آخر. من دون أن ننسى رفاق الشيخ بشير ومنهم لويس حنينه وكثيرون غيره، الذين هم أيضاً ابتعدوا عن الحزب أو يلتزمون منازلهم تعبين يائسين يروون بطولات الماضي لأحفادهم.
ظهر الشيخ سامي وكأنه يطلق حزباً جديداً، مبتعداً عن الجذور الحزبية، قاطعاً مع الماضي. وهذا ما أراده أيضاً في تشكيل المكتب السياسي الحالي، وهو مؤلف من أفرادٍ، غالبيتهم لم تسمع بهم القاعدة الكتائبية التاريخية التي اعتادت على مكتب سياسي من أوزان ثقيلة، مثل الياس ربابي ولويس أبو شرف وموريس الجميل وصلاح مطر وجورج عميرة وجورج سعاده، وغيرهم من القامات صاحبة المساهمات الكبيرة على الصعيد الوطني، تهتزّ المنابر تحت أقدامهم ولهم عطاءاتهم الوطنية والشخصية.
بدا الشيخ سامي فارساً وحيداً وكأنه يفتقد الى «ضباط» من مستوى عالٍ يكونون إمتداداً لخطابه ومواقفه يخوضون الى جانبه معارك السياسة والإعلام والقضايا الإجتماعية ويتلقّون عنه السهام عند الضرورة.
فهل تكفي إنجازات مرشح أو برنامجه الطموح للتصويت له وكسب الإنتخابات؟ هذا ما اعتقده المرشح أسعد نكد في زحله (كهرباء 24/24). لكن اللبنانيين، كالشعوب كلّها، قراراتها السياسية ليست دائماً بالعقلانية، وهذا ما جعل الرئيس الفرنسي شارل ديغول يصف ذات مرة الفرنسيين بأنهم «عجول»، فهم خذلوه في أيار 68 واضطر الى الإستقالة رغم كل ما فعله لتحرير فرنسا من الإحتلال الألماني، وثم لإعادتها الى الخريطة الدولية كرئيس للجمهورية، ورغم نزاهة نادرة لا تزال حتى اليوم مضرب مثل، إذ كان يمنع أولاده مثلاً من المشاركة في احتفال شجرة عيد الميلاد في قصر الإليزيه تأكيداً على الفصل بين الخاص والعام في الممارسة السياسية.
قدامى الكتائب في إمكانهم أن يرووا للشيخ سامي إنتظارات الجمهور «غير العقلانية» هذه. أحدهم يتذكر حفلاً إنتخابياً كان خطيبه الشيخ موريس الجميل، فراح يستفيض في شرح مشاريعه المستقبلية العلمية، وكان مشهوداً له بها، فسئم الجمهور الحاضر وانتظر بفارغ الصبر نزوله عن المنبر، الى ان اعتلاه الياس ربابي، الخطيب المفوّه، وأطلق بعض الشعارات الإنشائية فامتلأت الصالة تصفيقاً وهتافات.
أراد الشيخ سامي أن يظهر حزب الكتائب بصورة جديدة تبعاً لمفاهيمه ورؤيته. وعلى رغم تميّز الحزب بوضع برنامج إنتخابي مفصّل من أكثر من مئة إقتراح، لم يطفُ البرنامج على السطح، فصوت الشيخ سامي العالي طغى على ما عداه ولم يتمظهر المشروع لدولة جديدة، لا أحد في لبنان اليوم يصدّق إمكان قيامها.
لم تتبع قاعدة مناصري الكتائب رئيس الحزب في خطته، فيما لم يستفد هو من تاريخ الحزب في الشارع المسيحي. لعب الفردية في الحملة الإنتخابية وطوال الأشهر السابقة، وراهن على عقلانية ليست مضمونة النتائج في الأداء السياسي. إنه نهج صعب وطويل الأمد، لا يعطي ثماراً سريعاً.
إنه نوع من الزرع، وهذا يفترض أرضاً خصبة ومزاج طبيعة تكافئ الزارع، كما يفترض مرحلة انتظار يعرفها جيداً المزارعون. مزاج الناخبين كان في مكان آخر، وحساب الحقل لا يُطابق دوماً حساب البيدر. زرع الشيخ سامي بحماسة، لكن الحصاد لم يكن على الموعد.