من له عينان للمراقبة يمكنه أن يلاحظ وبكل سهولة أنّ الساحات اللبنانية بمختلف فئاتها وطوائفها ونتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة تعرف مخاضاً جديداً سيؤدّي بشكل مباشر أو غير مباشر الى أزمة جديدة قد لا تخلو من الخطورة، لناخذ مثلاً الساحة الشيعية المنتصرة سواءٌ بنيلها العلامة الكاملة في حصتها أو فوزها بمقاعد حليفة في مختلف المناطق، هو انتصار لا يمكن صرفُه ضمن المعادلة اللبنانية ويحتّم على زعماء الطائفة تقديمَ تنازلاتٍ صعبة في زمن الحصار الخارجي المتصاعد عليها.
لناخذ الساحة السنّية المشرذَمة ديمقراطياً وتنظيمياً وما أقدم عليه زعيمُها الأوّل سعد الحريري فور انتهاء الانتخابات يدلّ على فهمه أخيراً أنّ جمهورَه المحقون لا يُقيم وزناً للسياسة ويرفض لغة الإقناع مفضّلاً عليها لغة التعبئة التي طالما سمعها منه منذ العام 2005، وأنّ استعادة الرعاية الإقليمية التقليدية باتت واجباً لا يمكن التفريطُ به في هذا الوقت مع ما يعني ذلك من عرقلة لا يمكن معرفةُ مقدارها حالياً للتسوية الرئاسية.
لنتامّل تداعيات حادثة الشويفات على الساحة الدرزية وما رافقها من اتّهاماتٍ متبادَلة لبّدت الجوَّ في الجبل، علماً بأنّ هذه الساحة سبق لها أن خرجت من الانتخابات النيابية مع مؤشرَين مهمَّين جداً قد يؤسّسان لانغلاقٍ مقلق مستقبلاً داخل طائفةِ مؤسّسة، نسبةُ مقاطعةٍ لا يمكن الاستهانةُ بها وخسارةٌ بطعم الفوز للوزير السابق وئام وهاب الذي هزّ معقل وليد جنبلاط التقليدي في وقتٍ ترك الأخير مقعداً شاغراً لطلال أرسلان في عاليه...
تبقى الساحةُ المسيحية التي يبدو أنها تحنّ ظاهرياً الى أن تتقاسمَها مجدّداً ثنائيةٌ متفجّرة لا متكاملة هذا أقلّه ما يشي به التراشقُ الإعلامي العنيف المتبادَل بينهما منذ الخامس من أيار وتبادل التهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين أنصار الفريقين، والذي يؤسّس اذا ما استمرّ الى مرحلة مليئة بالشوك المدمي في آخر معقل فعّال لمسيحيّي المشرق، وقد يؤدّي الى تعطيل أو ما يشبهه للعهد، ولإحباط قد لا تخرج منه إلّا الى الفناء الكلّي، علماً بأنّ الطرفين عليهما أن يقدّما مزيداً من أوراق الاعتماد الى الداخل والخارج لكي يُثبتا وجودَهما في ساحة متقلّبة ومتحرّكة ومفتوحة على كل الاحتمالات، وأكثر ما يقلق أنّ الفريقين لم يتعلّما من تجارب وأخطاء الماضي، على الرغم من أنهما محكومان بشخصين يرغبان بدفن جزءٍ من ذلك الماضي كلّ لأسبابه الخاصة... يُضاف الى ذلك صمتٌ مرير ومخيف وعدمُ وجود تصوّر واضح أو خطة للخروج من هذا الانتحار لكلٍّ من العهد وبكركي واستسلام ذلك المجتمع الصامت الخفي والذي بات يشكّل حالةً موازية للفريقين...
ولعلّ الملاحظة الأبرز على نتائج الانتخابات هي الضعف في المشاركة، ضعفٌ طال معظمَ الطوائف والمذاهب والمناطق،علماً أنّ التوقعات كانت تشير الى احتدام المنافسة قياساً لانتخابات 2009 كونها عملية تجري بعد تسع سنوات من الغياب... وهذه المقاطعة تدلّ على أنّ المواطن اللبناني إما مشغول بقضايا أكثر إلحاحاً أو انه اعتاد على أنّ الانتخابات لن تبدّلَ شيئاً في حياته الخاصة أو قرّر الاستقالة والعيش على الهامش، ويبدو أنّ رقعة المقاطعة ستزداد يوماً بعد يوم خصوصاً وأنّ مَن صادر الحراك المدني لم يستطع تقديمَ مشروع سياسي بديل...
هي ملاحظاتٌ أوّلية لنتائجِ انتخاباتٍ قد تبدّل كثيراً في الساحات اللبنانية المتواجهة وداخل كلّ ساحة منها...