كثر ربما لا يعرفون أن كتباً نشأنا عليها، أدباً وأخلاقاً وقيمة، كانت أساساً مقالات صحافية، جمعها كتّابها لاحقاً بين دفَّتين. فها هو، مثلاً، «درب القمر» لفؤاد سليمان يسأل «دمعة وابتسامة» في أدب جبران، فيدوِّن أمير الصناعتين أمين نخلة النثر الجميل في «المفكرة الريفية».
وكما في الأدب، عمد صحافيون كبار إلى جمع مقالات لهم في كتب، أضحت مدرسة في فن المقالة، من كامل مروة الذي قال كلمته ومشى، إلى غسان تويني وأنسي الحاج وطلال سلمان، إلى سمير عطاالله وجوزف سماحة... لا بل أرَّخت محطات في التاريخ الحديث، نلجأ إليها كمراجع.
لكن «... صارت حبراً» للإعلامي والأكاديمي هاني صافي، مدير كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية – الفرع الثاني، قد يكون العمل الأول من نوعه، ليس في لبنان وحسب، إنما في العالم العربي أيضاً.
«... صارت حبراً» سلسلة مقالات أسبوعية تبث، كل أربعاء، على إذاعة «صوت لبنان -93.3» بصوت صافي، تحت عنوان «بلا ضوابط» منذ أيلول (سبتمبر) 2011، وما زالت مستمرة إلى اليوم، فضمَّن نتاج أربع سنوات منها (2011 – 2015)، كتاباً يندرج في فن «أدب المقالة الإذاعيَّة».
أكثر من مئتي تعليق/ مقالة، كيفما قلبت صفحاتها، وسبرت غور معانيها، وفتَّقت قُطب حروفها، وجدت قيمة إنسانية، لأن جوهر ما نشأ عليه صافي، في اختصاصه الفلسفي، ومن ثم الإعلامي، وفي رسالته التربوية، هو كرامة الإنسان. ولعل أبرز مقالة تجسد هذا الاستنتاج، تلك التي تناول فيها مسألة الحد الأدنى للأجور. فكتب أن دعك من أرقام وحسابات، وابحث، حين تريد مكافأة عامل، عما يجعله كريماً ليس إلَّا.
المقالات متنوعة المواضيع، وتكمن أهميتها في أنها تصدَّت لأحداث تلك السنوات المفصلية من عمر لبنان والمنطقة، في ما عرف بـ «الربيع العربي»، من دون أن تغفل قضايا مطلبية وهموماً وطنية وتربوية، ولا سيما منها شأن الجامعة اللبنانية التي تعني الكثير للمؤلف.
وقد نجح صافي بأسلوب سهل، وبلغة غير معقدة، وبمعان مكثفة، من دون حشو وإطناب، وبإيجاز عميق في إيصال رسائله الإنسانية، إلى حد أن الموضوعات التي تناولها تجاوزت آنيتها، لتصلح لكل زمان ومكان، حسبه في ذلك رؤية واستشراف وسعة معرفة وموقف جريء.
وما يميز تلك المقالات أيضاً أنها تنتقد مواقف وأفكاراً وطروحات وخططاً سياسية أو حكومية، وأزمات يعانيها المواطن كل يوم، لا أشخاصاً أو منظمات، فترد على الحجة بالحجة. إذ لا تجريحَ ولا قدحَ أو ذمَّ، ولا افتراءَ أو سلبية، ولا وعظَ أو إرشاد، بل احترامٌ للرأي الآخر، واعتراف بحق الاختلاف، مقرونان بموقف للكاتب مخالف، لا يفسد في الود قضية، بل قل محاولة منه، على ما ورد في مقدمة «... صارت حبراً»، لـ «نشر الأفكار البنَّاءة».
وإذا كانت الموضوعات السياسية والاجتماعية والتربوية تتطلب معالجتها، في تعليق إذاعي، لغة نثرية مبسطة غير عصية على الفهم، فإن أسلوب الدكتور صافي ينطوي على شاعرية حين يرثي، مثلاً، كباراً فقدناهم، في مجالات الأدب والفن والصحافة، من سعيد عقل إلى غسان تويني ووديع الصافي وآخرين.
«... صارت حبراً» أكثر من كتاب، بات «اليوم في متناول العين بعد الأذن»، كما كتب مؤلفه، هو قيمة أخلاقية إنسانية، تساهم في بناء إنسان ووطن.
* يوقع هاني صافي كتابه، السابعة مساء غد الأربعاء في القاعة الكبرى في دير مار الياس أنطلياس، ويتحدث في ندوة للمناسبة وزير الإعلام اللبناني ملحم رياشي، وعميد كلية الإعلام جريس صدقة، والزميلان ميشال معيكي وأنطوان مراد، وتديرها الزميلة ريما صيرفي.