شكلت تظاهرات أبناء شعبنا العربي في مدينة حيفا الفلسطينية، التي احتلتها العصابات الصهيونية سنة 1948، وما أدت إليه من نتائج على صعيد إجبار سلطات الاحتلال على إطلاق سراح الشبان الذين اعتقلوا خلال التظاهرات، تطورا هاما في مسيرة النضال الوطني التحرري ضد كيان الاحتلال الاستيطاني العنصري الإرهابي الصهيوني، فاجأت قادة العدو وأجهزته الأمنية وأقلقتهم، لكون هذه التظاهرات تحصل في عمق فلسطين التاريخية وفي مدينة اعتقد العدو ان الأمور قد استتبت بالنسبة له وأن من تبقى من أبنائها الفلسطينيين إنما هم أقلية ضئيلة لن يجرؤوا على القيام بمظاهرات تتحدى الاحتلال وتذكره بأنه محتل وليس صاحب الأرض مهما مضى من الزمن على هذا الاحتلال.
لقد شهدت المدينة الفلسطينية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط نوعان من التظاهرات:
الأولى: تظاهرات متضامنة مع مسيرات العودة الفلسطينية على الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة عام 48
والتي سقط خلالها أكثر من مائة شهيد وآلاف الجرحى برصاص جنود الاحتلال في محاولة منهم لإرهاب المتظاهرين السلميين وثنيهم عن مواصلة مثل هذه المسيرات التي تؤكد على تمسك الشعب الفلسطيني، لاسيما اللاجئين في مخيمات غزة، بالعودة إلى أرضهم وديارهم التي أجبروا على مغادرتها تحت سيف البطش والمجازر الإرهابية التي ارتكبتها بحقهم العصابات الصهيونية.
الثانية: مسيرة لأهالي قرية الطنطورة إلى أرض بلدتهم الواقعة في ضواحي حيفا على شاطئ المتوسط، حيث أقيم مهرجان خطابي ووضعت خلاله مجسمات لمقبرة شهداء البلدة الذين قضوا بفعل المجزرة الرهيبة التي نفذتها عصابات الهاغانا وشترين. وكان لافتا أن العديد من أبناء البلدة قد أتوا من أماكن مختلفة من المقيمين في الأراضي المحتلة عام 48 أو المقيمين خارج فلسطين في المهجر تمكنوا من الحضور لكونهم يحملون جوازات سفر أوروبية وأميركية وغيرها من الدول الأجنبية.
على أن تظاهرات حيفا ومسيرة الطنطورة في هذا التوقيت بالذات، بعد سبعين عاما على نكبة فلسطين، إنما تؤكد جملة من الحقائق المهمة أبرزها:
الحقيقة الأولى: تدشين مسار جديد في نضال الشعب العربي الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 48 يؤكد بأن من بقي من أبناء فلسطين في أرضهم وديارهم ولم يغادروها لم ينسوا قضيتهم ولم يتم تدجينهم من قبل كيان الاحتلال وهم أكثر إصرارا وعزيمة واستعدادا للدفاع عن حقوقهم ومواجهة الاحتلال موحدين يساندون أهلهم في قطاع غزة والضفة الغربية في أي مواجهة مع المحتل، مما يؤكد فشل سياسات الاحتلال على مر العقود الماضية في تجزئة الشعب الفلسطيني وبث ثقافة الفرقة والانقسام وجعل كل جزء يفكر بشكل مستقل عن الجزء الآخر بعيدا عن الهم الوطني الواحد الذي يوحده وهو مقاومة الاحتلال والتصدي لسياساته القمعية والعنصرية والإرهابية وعدم الخضوع والاستسلام لها.
الحقيقة الثانية: تؤكد تظاهرات حيفا، التي جاءت لتعانق مسيرات العودة في غزة، مدى تأصل الروح الوطنية لدى أبناء فلسطين القاطنين في الأرض المحتلة عام 48 وفشل مخططات الاحتلال على مدى سبعين عاما الماضية في جعل الأجيال الجديدة من شباب فلسطين ينسون أن لهم وطن محتل اسمه فلسطين، أو جعلهم يتخلون عن مواصلة طريق آبائهم وأجدادهم في التمسك بوطنهم والنضال من أجل استعادة حقوقهم المغتصبة.
الحقيقة الثالثة: إن شعب يحتفل بذكرى النكبة بمسيرات إلى قراه التي هجر منها لا يمكن أن تصبح قضيته من الماضي طي النسيان، أو يتكرر معه ما حصل للهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، فطالما هناك شعب فلسطيني يقيم على أرضه ويتمسك في البقاء فيها ويملك الاستعداد للتضحية في سبيل استرجاع حقه فيها، والحفاظ على هويتها العربية، فإن كيان الاحتلال لن يدوم وسيزول مهما طال الزمن، فالشعب الجزائري ظل يناضل ويكافح من جيل إلى جيل على مدى 130 سنة من الاستعمار الفرنسي العسكري والاستيطاني للجزائر، وتمكن في النهاية من تحرير بلاده وإجبار المستعمرين والمستوطنين الفرنسيين على الرحيل عنها بعد أن قدم مليون ونصف المليون شهيد. وشعب فلسطين ليس أقل عزيمة وإصرارا على مواصلة الكفاح ضد المستعمرين والمستوطنين الصهاينة، واستعدادا لتقديم المزيد من التضحيات في سبيل تحرير فلسطين.
الحقيقة الرابعة: إن الفلسطينيين الذين أجبروا على مغادرة أرضهم وديارهم إلى العديد من دول العالم لم يندمجوا في المجتمعات الغربية أو غيرها، ولم يتخلوا عن حقهم في العودة واستغلال أي فرصة من أجل التأكيد على تمسكهم بهذا الحق.