بعد التسليم بأنّ هذا الوطن فيلمٌ طويلٌ أقربُ إلى الاستحالة مسلسلًا تتشعّب حلقاتُه وموضوعاتُه، يبدو اللواء عباس ابراهيم نسخة لبنانية محبوبة من توم كروز. ما استعصت قضيّة إلا ووجدت لواءً جنوبيًا صامتًا، قليلَ الكلام كثيرَ الإقدام.
بهدوء طباعٍ وتطبُّع، بزيٍّ مدنيٍّ وثقةٍ رئاسيّة لولايةٍ جديدة متجدّدة، يقودُ عباس ابراهيم جهازًا تعسكرَ حدّ أنّ إناطة القضايا المستحيلة به غدت عُرفًا أقرب إلى "الحلّ المُدستَر".
ما حملَ اللواءُ لواءَ قضيةٍ إلا وبلغت خواتيمَها، منها السعيدُ القائمُ على مفاوضاتٍ وتنازلاتٍ لا تكسرُ ظهرَ الوطن وهيبة قادته ومؤسساته، منها المؤلم اللاإراديُّ المذيلُ بغدرٍ والحافرُ كلومًا لا تنضب. غزا الرجلُ الحدود الشرقية ذات المِرار ليتفاوضَ مع مسلّحين وخاطفين في مسعى لاستعادة فلذةٍ سُلِخت من قلب أمٍّ وقلب وطن. تلك المسيرة الناصعة التي حفرها الرجل في كل ناصيةٍ، تخترقها حرقتان: حرقة سرمديّة عنوانها شهداء الجيش اللبناني في الجرود، وحرقةٌ على مطرانين غابت أخبارهما وما غاب ذكرُهما.
كثيرًا ما يثق اللبنانيون بهذا العسكري القريب. كثيرًا ما يشعرون بصورةٍ لاواعية بأنه نبّاش الحلول في وطن نبش القبور. كثيرًا ما يستأنسون به وينتهلون منه أملًا بعودةٍ ما، بحياةٍ ما، بحلٍّ ما. تحمل كفّا اللواء نظافةً جمّة، وتحمل كتفاه أثقالًا جمّة؛ يواكبُها بثباتٍ بلا قلائلَ أو لغوٍ. يستذكر بهدوءٍ دمعةَ أمٍّ في الضاحية الجنوبية، أوصته بابنها المخطوف في أعزاز ووعدها بأن يعود إليها سالمًا. يومها صارحتنا السيدة: "أثق بهذا الرجل. ما خذلنا يومًا. أثق بأنه سيعيد الغالي حيًا أو ميتًا. ليس مهمًا. الأكيد أنه سيعيده".
ليس بعيدًا من الضاحية، تتسلل من القصر الرئاسي وحكمة سيّده ثقةٌ لا تختلف البتّة عن تلك التي يتسلّح بها جنديّ المهام الصعبة. اليوم، وفي غمرة بلبلة مرسوم التجنيس، يضطلع رجل الثبات بالاستثبات. لم يكن موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مفاجئًا لجهة إركان مسؤولية التدقيق في أسماء المجنّسين إلى المدير العام للأمن العام. مسؤوليّة وطنية أخرى تُرمى على كاهلَي الرجل. مشهديّة تستنهض سؤالًا كثيرًا ما يدور في الأخلاد من دون أن يبصر النور: أهو سيزيف * أم نحن؟
* سيزيف في الميثولوجيا الإغريقية هو رمز العذاب الأبدي بعدما حُكِم عليه بأن يحمل صخرة على كتفيه وينقلها طوال حياته من أسفل الجبل إلى أعلاه.