شكّلت جريمة اغتيال القضاة الأربعة على قوس "محكمة جنايات لبنان الجنوبي" في قصر العدل القديم - وسط مدينة صيدا، يوم الثلاثاء 8 حزيران 1999، وصمة عار على جباه الجُناة المجرمين، وولّدت استياءً من التلكؤ في كشف الحقيقة وتحديد القتلة المأجورين.
وبقي المطلب الأساس، البحث عن الحقيقة كاملة في هذه الجريمة، التي أدّت إلى استشهاد القضاة:
- رئيس "محكمة جنايات لبنان الجنوبي" القاضي حسن عثمان.
- المحامي العام الاستئنافي في الجنوب القاضي عاصم بوضاهر.
- المستشار لدى "محكمة جنايات لبنان الجنوبي" القاضي عماد شهاب.
- رئيس "المحكمة الابتدائية" في الجنوب والعضو المستشار في "محكمة الاستئناف" القاضي وليد هرموش، أثناء جلسات المحاكمة، وإصابة 5 أشخاص.
19 عاماً مرّت، وتأخّر صدور القرار الظني في الجريمة من قِبل القاضي العدلي في القضية بيار فرنسيس، إلى يوم الأربعاء في 25 تشرين الأول 2017، موجّهاً الاتهام إلى "عصبة الأنصار الإسلامية" بارتكاب هذه الجريمة.
وبقي إنصاف مَنْ كان يحكم بين النّاس بالعدل، فإذ بالعدل لم ينصفه لا في حياته قبل تعديل القوانين والسلسلة، ولا بعد استشهاده بتوقيف مَنْ بقي من القتلة على قيد الحياة، قبل أنْ يلحقوا بشركائهم الذين قتلوا في ظروف متعدّدة!
وفاءً لدماء الشهداء القضاة الأربعة، والجرحى الذين نجوا بأعجوبة، وحتى لا تبقى بهيجة الصلح عثمان وسوزان قبرصلي بوضاهر ومنى شهاب وغادة جنبلاط هرموش وأولادهن، أسرى الوعود التي لا تكفكف الدمع، أو تخفّف الغصّة، وتبدّل اللهفة، بات على الجميع التحرّك من أجل كشف الحقيقة وإنزال العقاب بالمجرمين، حتى لا يُطوَى الملف ويبقى اقتصار الذكرى على الاحتفال بمَنْ حضر من زملاء بقوا على قيد الحياة، وعائلاتهم والمحبّين، لأنّ دماء الشهداء ستبقى تنزف فوق الضمائر حتى كشف الحقيقة لقضاة شهداء، سيرتهم مليئة بالمواقف التي تحكمها الأخلاق والمبادئ، بعيداً عن المصالح الشخصية، فعاشوا في حياتهم قدوة، واستشهدوا وهم يؤدّون واجبهم، الذين أقسموا يوم دخولهم السلك القضائي، بأنّهم سيقومون به دون أي ضغوطات.
ليس بالسهل التحدّث عن شهيد، فكيف إذا كان الشهيد حامياً للعدالة، وكيف يمكن الحديث عن قدوة، خبرناهم عن كثب، وفي سيرة كل منهم تجارب وعبر.
هكذا نُفِّذَت الجريمة
جريمة اغتيال القضاة تحتوي كثيراً من الألغاز التي بحاجة إلى إماطة اللثام، منذ أن وقعت خلال جلسات المحكمة، التي كانت تُجرى في قاعة "محكمة جنايات لبنان الجنوبي"، حين كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة والدقيقة العاشرة ظهراً، حيث أطلق الجناة المسلّحون النار بغزارة على قوس القضاة في المحكمة، من خلال نافذتين مُطلّتين على موقف السيّارات الواقع خلف المبنى، ما أدّى إلى استشهاد القضاة: عثمان، بوضاهر، هرموش وشهاب، وإصابة كل من: المحامي سالم سليم، زهرة نجم، الرقيب الأوّل علي عليان، العريف أكرم الأشقر والكاتب لدى المحكمة كميل رحال.
ووفقاً لتقرير الطبيب الشرعي الدكتور معين السوسي، الذي عاين جثامين الشهداء القضاة الأربعة، تبيّن "أنّ القاضي عثمان كان جالساً في الوسط، وإلى يمينه القاضي هرموش، وإلى يساره القاضي شهاب، فيما جلس القاضي بوضاهر في الجهة المقابلة إلى يمين قوس المحكمة، كما تُظهِر الإصابات أنّ القضاة عثمان وهرموش وشهاب حاولوا الإلتفات إلى مصدر الرصاص من الوراء، وتمكّنوا من الوقوف، بدليل الرصاصات التي أصابت صدورهم من الجهة الأمامية، وآثار كدمات في الأقدام لدى بعضهم، أما القاضي بوضاهر فقُتِلَ فوراً، بينما لم تكن إصابة هرموش قاتلة، لكن النزيف في الشريان الرئيسي هو الذي أودى بحياته".
كانت المحكمة تنظر في 8 دعاوى موزّعة بين قتل ومخدّرات وسرقة وتزوير، موقوف فيها 8 أشخاص من التابعيتين اللبنانية والفلسطينية، واللبنانيون، هم: مصطفى خليفة، عماد طالب، فادي كريم اللهيب ومصطفى قاسم، والفلسطينيون: كامل الصديق، خالد عمر عوض، أحمد جابر الخطيب وسحر بدوي، ولم يُسجّل فرار أي من الموقوفين جميعهم.
اعترافات ياسين
وهذا ما يفتح جملة من التساؤلات عن دوافع وأهداف الجريمة وتوقيتها؟!
واستندت التحقيقات إلى اعترافات أمير "داعش" في مخيّم عين الحلوة عماد ياسين ياسين، الذي أوقفته مخابرات الجيش اللبناني بعملية أمنية نوعية في تعمير عين الحلوة، يوم الخميس في 22 أيلول 2016.
والمفارقة أنَّ من بين المتهمين وسام حسين طحيبش، الذي كان قد أوقف سابقاً وحوكم بقضايا عدّة، وأُطلِقَ سراحه بعد انتهاء محكوميته، قبل إعادة توقيفه في هذه القضية إثر اعترافات ياسين.
لكن بقيت هناك شبهة حول مَنْ ساعد الجناة بالرصد من داخل المحكمة!!
وقد ادّعى القاضي فرنسيس في قراره الظني على 8 أشخاص بين إعطاء الأمر والتخطيط والتنفيذ، وقسّمهم إلى مجموعتين:
- الأولى: تضم 6 متهمين، هم: أحمد عبد الكريم السعدي الملقب بـ"أبو محجن"، محمود حسين مصطفى الملقب بـ"أبو عبيدة"، إبراهيم جمال لطفي، وسام حسين طحيبش، حسين محمد شاهين وجهاد عويدات السواركة الملقب بـ"أبو همام"، فطلب لهم الإعدام بمقتضى المواد 549 و549/201 عقوبات.
- الثانية: تضم المتهمين: محمد قاسم طاهر وفريد سطام ججو، وادّعى عليهما بمقتضى الجناية المنصوص عليها في المادة 408 عقوبات، التي تعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة مَنْ أقدم على كتم معلومات أثناء شهادته خلال تحقيق جنائي.
وقد بدأ المجلس العدلي برئاسة القاضي جان فهد، أولى جلسات المحاكمة في قضية اغتيال القضاة الأربعة، يوم الجمعة 23 آذار 2018، وعضوية الرؤساء التمييزيين القضاة جوزيف سماحة، ميشال طرزي، عفيف الحكيم وجمال الحجّار، وحضور ممثّلة النيابة العامة التمييزية القاضية إميلي ميرنا كلاّس.
ومثل الموقوف الوحيد الفلسطيني وسام حسين طحيبش من دون قيد بحضور وكيله القانوني المحامي ناجي ياغي، الذي طلب إخلاء سبيله، فيما توجّه الأخير إلى عائلات القضاة الحاضرين بالقول: "موضوع القضاة يهمّني كما يهمّ أهل القضاة وهم أهلي".
وأرجئت الجلسة إلى يوم الجمعة 18 أيّار 2018، ومن ثم إلى يوم الجمعة 13 تموز 2018.
"عصبة الأنصار الإسلامية"
وفي محاولة لتبيان الحقيقة، قصدت "اللـواء" الجهة المدّعى عليها في القرار الظني في جريمة اغتيال القضاة الأربعة، وهي "عصبة الأنصار الإسلامية"، وحصلت منها على أوّل تعليق على القرار والاتهام، والذي جاء فيه:
"إلى لبنان دولة وشعباً ومؤسّسات، إلى مَنْ احتضن فلسطين وشعب فلسطين، وقضية فلسطين، إلى عوائل القضاة الأربعة المغدورين.
لا يُردّ الإحسان إلا بالإحسان، ومسيرتنا التي عمرها عشرات السنين، تثبت أنّنا كنّا دائماً حريصين على أمن لبنان واستقراره، كما حرصنا على شعبنا ومخيّماتنا.
وقد تفاجأنا بالقرار الظنّي الذي صدر عن المجلس العدلي، ويتّهم "عصبة الأنصار الإسلامية" بأنّها مَنْ قام باغتيال القضاة الأربعة في صيدا بتاريخ 8/6/1999.
إنّنا إذ ننفي نفياً قاطعاً هذا الاتهام، ونرفضه جملة وتفصيلاً، نؤكد أنّنا سنبقى كما كنّا نعمل ما استطعنا من أجل أفضل علاقة مع أهلنا في لبنان، متمنّين لهذا البلد الأمن والأمان والازدهار.
كما نتوجّه إلى ذوي القضاة المظلومين لنؤكد لهم براءتنا من هذه الجريمة، وبالتعزية الحارّة التي قد يظن البعض أنّها متأخّرة بعد تسعة عشر عاماً، لنقول إنّ القضاة في هذه الأيام يُغتالون مرّة ثانية بتوجيه الاتهام إلى غير الجهة المسؤولة عن جريمة اغتيالهم.
إنّ المعلومات التي استُنِدَ إليها باتهام عصبة الأنصار بالاغتيال، المنسوبة إلى عماد ياسين غير صحيحة، إذ إنّه عند حصول الاغتيال كان خارج العصبة، وبالتالي لا يمكن أنْ يكون في دائرة الاطلاع على قراراتها وأعمالها.
نستغرب كيف أنّ أحد المتهمين بالقرار الظني وسام حسين طحيبش كان موقوفاً لدى القضاء اللبناني لعدّة سنوات ولم يتم اتهامه، بل أُفرِجَ عنه قبل إعادة توقيفه مرّة ثانية.
إنّ المتهم حسّان الشهابي، لم ينتم يوماً إلى عصبة الأنصار، ولدى مقتله في محلّة الجية بعد اغتيال القضاة الأربعة بأسبوع، أصدرنا حينها بياناً بإدانة مَنْ قام به، وأكدنا عدم انتمائه إلى العصبة.
إنّ جريمة اغتيال القضاة الأربعة حصلت بعد أيام من تحرير منطقة جزّين من الميليشيات العميلة مع العدو الإسرائيلي، وقد زارها قبل يوم واحد وزير العدل جوزيف شاوول ورئيس "محكمة الجنايات" في الجنوب القاضي حسن عثمان لمتابعة محاكمة ملف العملاء الموقوفين.
بعد جريمة اغتيال القضاة الأربعة ذُكِرَ أنّ طائرة مروحية إسرائيلية هبطت في منطقة التلة البيضاء في جزّين، أقلّت أشخاصاً شاركوا في الجريمة، كما اختفى في ذلك الحين بعض الأشخاص في منطقة صيدا ليتبيّن أنّهم عملاء للعدو الإسرائيلي.
وبعد وقوع الجريمة، أعلن رئيس "التنظيم الشعبي الناصري" النائب مصطفى سعد في حينه، إنّ "من دوافع اغتيال القضاة أنّ القاضي حسن عثمان المحقّق العدلي في محاولة اغتيالي بتاريخ 21 كانون الثاني 1985 كان بصدد إصدار القرار الظني بهذه الجريمة".
وعليه، فندعو الجهات الأمنية والقضائية المختصة إلى عدم الاكتفاء بالمعلومات التي بين يديها، وهي غير صحيحة، وفتح الملف من جديد، والتوسّع في البحث عن معلومات إضافية، للإحاطة الكاملة بجميع جوانب القضية، للتوصّل إلى الحقيقة والعمل بمقتضاها.
ونحن نؤكد أنّنا تحت القانون وليس فوقه، وقد قمنا خلال الفترة السابقة بتسليم عدد من المنتمين إلى العصبة للقضاء اللبناني، وتمّت محاكمتهم وفق الأصول، في دليل واضح على أنّ "عصبة الأنصار" حريصة على النظام العام والأصول المرعية.
إنّنا وبشهادة جميع الأطراف اللبنانية والفلسطينية، بذلنا جهداً من أجل درء الفتن عن مخيّماتنا والجوار ومخيّم عين الحلوة، خصوصاً بالتنسيق والتعاون مع كافة الفصائل والقوى الفلسطينية والجهات اللبنانية المختصة، وهو ما مكّن المخيّمات والجوار ولبنان من تجاوز العديد من الفتن والمؤامرات، وخصوصاً المذهبية منها.
ونتوجّه إلى أهلنا في لبنان عموماً، وفي المخيّمات خصوصاً، ومخيّم عين الحلوة تحديداً لنقول لهم: بأنّنا سنبقى مهما كانت الظروف صمّام أمان للمخيّمات وللجوار اللبناني، نعمل بجد ودون كلل ولا ملل، ولن يأتيكم منّا ما يسؤوكم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ونُفوض أمرنا إلى الله".