لم يكن الاختلاف عميقاً في النظرة الى ايران بين الولايات المتحدة الاميركية واوروبا، كما هو اليوم. فبالنسبة الى القارة العجوز، ليس هناك من سبب يدعو الى معاداة ايران وقطع الخيوط معها في ظل التطورات المتسارعة في المنطقة، والوضع غير المريح الذي تعيشه اوروبا بشكل خاص. في المقابل، نفّذ الرئيس الاميركي دونالد ترامب وعده وغرّد خارج السرب الاوروبي والعالمي وانسحب من الاتفاق النووي مع ايران، ولم يكتفِ بذلك، بل عمد الى فرض عقوبات على الشركات الاميركية وغير الاميركية التي تتعامل مع طهران.
هذا الامر لم يرضِ الاوروبيين الذين وجدوا فيه استهدافاً لهم، وعمدوا الى محاولة طمأنة ايران من خلال اعطائها بعض الضمانات كي تبقي على الاتفاق حياً. الا ان الواقع لم يرقَ الى مستوى التوقعات الاوروبية- الايرانية، فزاد ترامب من حدة التوتر مع الاوروبيين عبر زيادة الضرائب التجارية، فيما وجدت الشركات الاوروبيّة نفسها ملزمة بالخضوع للقرار الاميركي والتخلي عن ايران من اجل ضمان مصالحها. اليوم، ومع اعلان الايرانيين النيّة في رفع تخصيب اليورانيوم، اصبحت الامور اكثر تعقيداً وتعددت الجبهات التي يجب مراقبتها. فعلى الجبهة الايرانية، يسود القلق من ان الخطوات الاميركية ستقوّض اي نفوذ للاصلاحيين والمعتدلين، وستخلو الساحة للمتشددين الذين سيتولّون من جديد ادارة الامور، ولن يكتب لاي محاولة رفع الصوت (على غرار التحركات الشعبية التي تحصل بين الفينة والاخرى) اي نجاح. اضافة الى ذلك، سيكون المتشددون اكثر اقناعاً للرأي العالم الايراني عبر التذكير بأنه عندما كانوا يخصّبون اليورانيوم بدرجات عالية، تهافتت الدول عليهم لعقد اتفاق معهم، وانه عندما توصلوا الى الاتفاق والتزموا به، بدأ الغرب بالتخلي عنهم شيئاً فشيئاً، وسيسألون بالتالي: هل الافضل ان نكون اكثر قوة عبر تخصيب اليورانيوم ونخضع للعقوبات ام ان نكون اقل قوة ونخضع لها؟.
في اعتبار العديد من المتابعين لتطور الاوضاع، فإن الايرانيين يلعبون ورقتهم الاخيرة، بمعنى انهم لا يزالون غير جديّين (اقله في الوقت الحالي) لمعاداة الجميع مجدداً والتعرض لعقوبات دولية جامعة والتقوقع، وان كلام المسؤولين الايرانيين هو بمثابة رسالة عالية الصوت تحذّر من انه لم يعد لديهم ما يخسرونه اذا لم تقف اوروبا بوجه اميركا بما يضمن مصلحة ايران وللقارة الاوروبية بشكل عام.
من جهتها، ترى الدول الاوروبية ان المنطق الايراني سليم في ما خص الاتفاق النووي، وانه لا يمكن لقارة بأكملها ان تخضع لمزاجية شخص واحد (اي ترامب)، الا ان الامكانات المتوافرة لا تسمح للاوروبيين في مواجهة اميركا، فكل الدول الاوروبيّة لم تستطع ان تحمي شركاتها من العقوبات الاميركية، فكم بالحري حماية ايران منها؟ ناهيك عن ان الخلافات الداخلية بين الدول لا تساعد على ايجاد ارضيّة مشتركة يمكن من خلالها المناداة بالاستقلالية عن واشنطن. وفي ظل هذا الواقع، يحاول الاوروبيون التوفيق بين عدم رضاهم على السياسة الاميركية، وعدم التصعيد مع ترامب الذي يملك حالياً الافضلية في المواجهة.
ويمكن القول ان سياسة عض الاصابع بين اوروبا واميركا تنعكس سلباً على ايران التي تدفع الثمن من رصيدها السياسي والاقتصادي، وقد ترتمي كلياً في الاحضان الروسيّة، اذ يبدو ان موسكو هي الوحيدة التي تتتصدى لترامب وتتحدّاه، ولكن هل يمكن الرهان على الموقف الروسي وحده في ظل الخلاف الدائر بين موسكو واوروبا ايضاً؟.
ليس خفياً ان التعقيدات كثيرة ومتشابكة، ولكن الخيارات امام طهران محدودة، فأي خيار ستتخذ فيما يبدو ان ترامب مصرّ على مواقفه وهو لا يقيم وزناً لاي نتائج قد تترتب على قراراته؟ وهل العودة الى التشدد سيزيد من عزلتها ام سيشكّل سبباً لمزيد من الانفتاح عليها على غرار ما حصل مع كوريا الشمالية؟.