في العام 2000 وعندما فرض لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته على إسرائيل الانسحاب من جنوب لبنان طلبت إسرائيل عبر الأمم المتحدة التفاوض مع لبنان حول الانسحاب، فرفض لبنان برئاسة العماد أميل لحود الطلب الإسرائيلي، مؤكداً أن القرار 425 الذي تدّعي إسرائيل بأنه سند لانسحابها والذي تأخر تنفيذه 22 سنة بفرض انسحاب عليها دون قيد او شرط ودون أي اتصال بالجانب اللبناني، وتكون العلاقة فقط مع الأمم المتحدة الذي تراقب وتتأكد من تمام الانسحاب وتشرف على عودة الأرض لأهلها.
وبعد أن رضخت إسرائيل للرفض اللبناني جاءت الأمم المتحدة حاملة طلباً إسرائيلياً جديداً مضمونه تشكيل لجنة ثلاثية لبنانية إسرائيلية أممية للتفاوض حول الخط الذي يتخذ معياراً للتحقق من الانسحاب، وكان الجواب اللبناني الرفض أيضاً، حيث قلنا يومها إن حدودنا الدولية مع فلسطين المحتلة هي الخطّ الواجب اعتماده ونرفض التفاوض عليها، والمطلوب فقط الالتزام بهذه الحدود المكرّسة باتفاقية بوليه نيوكمب والمصدّق عليها من قبل عصبة الأمم التي ورثتها الأمم المتحدة والمؤكد عليها في اتفاقية الهدنة للعام 1949.
وعندما طرحنا موضوع مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل ، كانت محاولة أممية جديدة للتفاوض مع إسرائيل حولها، وكان رفض لبناني أيضاً، لأن حقنا في هذه الأرض مكرّس بما نملك من وثائق وباتفاقية غزاوي وخطيب الموقعة بين لبنان وسورية، وبالتالي فإن موضوع المزارع تلك لا شأن لـ«إسرائيل به. وهي أصلاً لا تدّعي أن المزارع ارض فلسطينية حنى تنازع لبنان عليها، ولما اقتنعت الأمم المتحدة بموقفنا ومن أجل إبقاء المزارع بيد الاحتلال الإسرائيلي. ورغم ما جاء في تقرير الامين العام للأمم المتحدة المرفوع الى مجلس الامن في 22 أيار 2000، حيث ذكر في فقرته الـ 16 أن سورية توافق لبنان على مطالبه في المزارع واعتبار المزارع لبنانية دون نزاع مع أحد. بعد هذا الوضوح تذرّعت الأمم المتحدة بأن الصلاحية العملانية في المزارع هي لـ UNDOF «الاندوف» أي القوات الدولية العاملة في الجولان، وليست لقوات يونيفيل UNIFIL أي القوات الدولية المؤقتة في جنوب لبنان، في تبرير لا يمكن أن يقبله أحد.
وفي خلاصة الموقف، إن إسرائيل استماتت في العام 2000 لتفتح حواراً وتفاوضاً مع لبنان حول الحدود والأرض ثم قدّمت عروضاً شتى عبر الأمم المتحدة حول تبادل الأرض او تأخير بتّ بعض المسائل، لكن لبنان رفض كل ذلك رفض التفاوض ورفض إنشاء لجنة ثلاثية مع إسرائيل حتى ولو كانت برعاية الأمم المتحدة ورفض المقايضة وتبادل الأرض وتمكّن من استعادة كامل أرضه بما فيها القسم اللبناني من الغجر ولم يبقَ محتلاً إلا مزارع شبعا ومساحات ضيقة في مناطق ثلاث تحفظ عليها في كل من رميش والعديسة مسكاف عام والمطلة. أي أن لبنان استعاد حقوقه من غير تفاوض كان ذلك نتيجة المبدئية والقوة التي تمسّك بها لبنان الرسمي ودعمها الجيش والشعب والمقاومة.
بيد أن إسرائيل وخلال عدوانها على لبنان في العام 2006، دخلت الى معظم المناطق التي كانت فشلت في قضمها في العام 2000، ثم اتّجهت إلى تكريس أمر واقع على الحدود يجعلها محتفظة بتلك المناطق، التي يصل عددها الى 10 مناطق بدءاً من راس الناقورة عند النقطة B1 وصولاً إلى المطلة، مروراً بالنقاط الثلاث المتحفّظ عليها أصلاً. وبالتالي بات الوضع الميداني على الحدود واعتباراً من العام 2006، يشمل فئتين من المناطق مناطق متحفّظاً عليها على الخط الأزرق وهي النقاط الثلاث التي ذكرت، ومناطق معتدىً عليها هي المناطق العشر التي تحقّق الجيش اللبناني بعد العام 2006 بأن إسرائيل لم تنسحب منها بمقتضى القرار 1701 إضافة الى الجزء اللبناني من الغجر الذي أعيد احتلاله في العام 2006 ومزارع شبعا التي تستمرّ إسرائيل باحتلالها.
ورغم النص الصريح في القرار 1701 على وجوب الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وإيجاد حل لتحرير مزارع شبعا كلّفت الأمم المتحدة بالبحث عنه مع الأطراف، فإن إسرائيل امتنعت عن الانسحاب ولم تقُم الأمم المتحدة بما يُجبر إسرائيل على ذلك ومع طرح مسألة الحدود البحرية تفاقمت التعقيدات وتدخل الأميركي فيها بطروحات متتالية بدءاً بما جاء به «هوف»، ثم ما اقترحه «ساترفيلد». والأخطر هو ما يطرحه الصهيوني دافيد شنيكر الذي حلّ مكان ساترفيلد في الخارجية الأميركية. وهو طرح يُختصر بالدعوة الى مفاوضات مباشرة بين لبنان و إسرائيل حول كل الحدود، بما فيها مزارع شبعا والحدود البحرية والحدود البرية مع التراجع عن كل صيغ الحلول التي جاء بها أسلافه.
إن الاقتراح الأميركي الجديد بالتفاوض المباشر حول كل الحدود هو ما كانت تسعى إليه إسرائيل منذ العام 2000، ولهذا رحبت إسرائيل فوراً بالاقتراح الأميركي الذي نعتقد جازمين أنه منسق معها قبل طرحه أما من جهة لبنان فلا نجد مصلحة له في الوقوع في هذا الفخ، حتى ولو كان برعاية الأمم المتحدة وبوجودها، وذلك للأسباب التالية:
إن الحدود اللبنانية البرية مع فلسطين المحتلة ليست محلّ تفاوض. فهي ثابتة ونهائية منذ العام 1923 مروراً بالعام 1949 وصولاً للعام 2000، حيث أكدنا في خريطة الخط الأزرق المتحفظ عليها لبنانياً في نقاط ثلاث أن هذا الخط لا يمسّ بأي حال بالحقوق اللبنانية الثابتة في الحدود الدولية. وأن القول اليوم بالمناطق التنازع عليها الثلاث عشرة هو قول في غير محله القانوني، حيث إن النزاع هو فقط في 3 نقاط يتحفظ عليها لبنان أما المناطق الأخرى بما فيها النقطة B1 عند رأس الناقورة هي نقاط معتدى عليها وتحتلها إسرائيل عنوة وعليها الخروج منها دون أي تفاوض تحلم به إسرائيل ممنية النفس بمقايضة أو تبادل أو كسب قانوني آخر.
إن مزارع شبعا هي أرض لبنانية تقع على حدود لبنان مع سورية. وأمرها محسوم بالطلب اللبناني والموافقة السورية المنوّه عنها أعلاه، وبالتالي لا شأن لـ«إسرائيل بتحديد هوية تلك الأرض أو مساحتها. فالموضوع شأن لبناني سوري فقط، وإن القبول بتفاوض لبنان مع إسرائيل حول المزارع فيه خشية كبيرة لجهة تفسير ذلك، بأنه إقرار ضمني لبناني بمشروعية ضم الجولان السوري لـ«إسرائيل . وهذا ما يجب تجنّبه وقطع الطريق عليه من أي جهة كانت. فالحل في مزارع شبعا يكون ببساطة خروج إسرائيل منها، تطبيقاً للقرار 425 ثم القرار 1701 بعد أن أكد لبنان لبنانيتها وأحد لا يدّعي ملكيتها سوى لبنان.
إن الحدود البحرية، وفي ظل عدم توقيع إسرائيل على اتفاقية قانون البحار للعام 1982، وبعد أن أكد لبنان حقه، وفقاً لهذه الاتفاقية التي انضمّ اليها بشكل أصولي، ووضع الخرائط وفقاً لهذه الاتفاقية، فإن الحل قد يكون عبر طرف ثالث يتّصف بالحياد والنزاهة، لا أن نسلم رقبتنا في الحدود لأميركي صهيوني جل همه البحث كيف يخدم إسرائيل .
إن التفاوض المباشر بين لبنان و إسرائيل حول كامل الحدود المطروح أميركياً ليس لمصلحة لبنان من أي وجه أو باب، بدءاً مما يمكن تفسيره باعتراف بالعدو والقبول بالنقاش حول حقوق لبنانية ثابتة، وصولاً الى ما قد يتعرّض لبنان من ضغوط للتنازل عنه أو تحميله المسؤولية عن الفشل، كما جرى ويجري مع الفلسطينيين المظلومين.