"التحقيقات الأوّلية التي قامت بها وزارة الداخلية أظهرت أنّ عدداً من الأسماء تدور حولها شبهات أمنية وقضائية. ويتم حالياً التدقيق بمدى دقّة هذه المعلومات، من خلال التحقيق الإضافي الذي تقوم به المديرية العامة للأمن العام".
لا يمكن، ولا يفترض، أن تكون هذه العبارة التي وردت في البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية لإعلان نشرها مرسوم التجنيس أخيراً عملاً بمبدأ الشفافية وبعدما تحوّل إلى قضية رأي عام، بريئة بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً أنّها أوحت وكأنّ هذه "الشبهات" معروفة لديها منذ ما قبل نشر المرسوم، فيما كان المدافعون عنه يتبجّحون بأنّ المشمولين به جميعاً ممّن قدّموا خدمات "جلية" إلى الدولة اللبنانية.
وفيما تُطرَح علامات استفهام كبرى عن المغزى من إضافة هذه العبارة إلى بيان وزارة الداخلية، وما إذا كان المقصود منها "نفض اليد" أو "التنصّل" من المسؤولية مسبقاً، ثمّة من يقول إنّ الوزارة بذلك لم تبرّر فحسب الحملات التي شنّها المعترضون على المرسوم، بمُعزَلٍ عن خلفيّاتهم السياسيّة، بل أسهمت في هذه الحملات، ولو بصورة غير مباشرة...
مفاجأة وتناقض...
على مدى الأيام الماضية، تحوّل مرسوم التجنيس إلى شغل اللبنانيين الشاغل، لاعتباراتٍ كثيرة لا يمكن حصرها بالضغط الذي نجح معارضو المرسوم في فرضه، وما سُمّيت البروباغندا الإعلاميّة التي وظّفوها لصالحهم، ولكن قبل ذلك، بالغموض الذي أحاط المرسوم من كلّ جوانبه، وتحديداً بطريقة تعامل الجهات الرسمية معه، بدءاً من تمرير المرسوم بالسرّ والخفاء، مروراً بالصمت المطبق وتجاهل الحملات عليه بعد تسريبه إعلامياً، وصولاً إلى "المَخرَج" الذي وُجِد عبر إحالته إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم للتدقيق به.
وإذا كان نشر المرسوم أخيراً تمّ بضغطٍ من الأمن العام انطلاقاً من أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون طلب ممّن لديهم "معلومات أكيدة" من المعترضين حول بعض الأسماء المشمولة بالمرسوم إبلاغ الأمن العام بها، فإنّ "مفاجأة" رفض بعض الجهات، ومن ضمنها الداخلية، مبدأ النشر، بل الذهاب لحدّ القول إنّ قانون الوصول إلى المعلومات لا يسمح بالنشر، الأمر الذي اعترض عليه "عرّاب" القانون نفسه النائب السابق غسان مخيبر، تبدّدت من خلال بيان وزارة الداخلية، والحديث عن "شبهات أمنية وقضائية أثبتتها التحقيقات الأولية على بعض الأسماء"، ما أوحى وكأن وزارة الداخلية تقرّ سلفاً بوجود "خلل" في المرسوم والأسماء، وهو ما طرح الكثير من علامات الاستفهام.
ولعلّ النقطة المحورية التي يجدر التوقف عندها وسط هذه المعمعة أنّ إقرار الداخلية هذا بموازاة نشر مرسوم التجنيس يأتي ليناقض أجواء كانت سرّبتها بنفسها في المرحلة التي كان فيها المرسوم "من أسرار الدولة"، أبرزها التصريح الذي أدلى به وزير الداخلية نهاد المشنوق نفسه قبل أيام بعد لقائه الرئيس عون في قصر بعبدا، حين حاول الإيحاء بأن لا داعي لتحقيق الأمن العام الإضافي، باعتبار أنّ جميع الأسماء سبق أن عُرضت على ثلاث جهات أمنية هي فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي والنشرة القضائية اللبنانية والإنتربول الدولي، الأمر الذي أوحى بأنّ جميع المجنَّسين "نظيفو الكف" مئة في المئة.
محاولة تنصّل؟
عموماً، وبمُعزَلٍ عن الخفايا الكامنة وراء مرسوم التجنيس المثير للجدل، يعتبر كثيرون أنّ بيان وزارة الداخلية إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الوزارة تحاول من خلاله أن تتنصّل سلفاً ممّا كانت تعرفه سابقاً حول "اللبنانيين الجُدُد"، على الرغم من الخطورة التي ينطوي عليها مثل هذا الاستنتاج، أو ربما تحاول رميه على غيرها من الموقّعين على المرسوم، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، في محاولةٍ للإيحاء بأنّهما كانا أيضاً على علمٍ بذلك، وبالتالي فإنّ مسؤولية تمرير بعض الأسماء "المشبوهة" لا يقع على عاتقها وحدها، وهنا تصبح الخطورة أكبر.
وإذا كان من المبالغة بمكان توقع "محاسبة" أحد على خلفية هذا المرسوم، وإنّ أقصى "الآمال" يكون بإصدار مرسوم جديد يعدّل الأول بإلغاء الأسماء "المشبوهة" منه بعد انتهاء تحقيقات الأمن العام التي قد تأخذ بعض الوقت الكفيل بجعل اللبنانيين يتلهّون بملفاتٍ أخرى، فإنّ الأكيد أنّ الداخلية منحت ببيانها المعترضين على المرسوم، من حيث تقصد أو لا تقصد، مشروعية إضافية ونصراً معنوياً كبيراً، مثبتة بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ "الغموض" الذي اكتنف هذه القضية منذ اليوم الأول لم يكن بريئاً ولا عفوياً، بعيداً عن كلّ ما سيق على هذا الصعيد.
لا يعني ذلك بطبيعة الحال أنّ الحملات لم تكن "مسيَّسة" في جانبٍ كبيرٍ منها، خصوصاً أنّها تركّزت على رئيس الجمهورية ميشال عون دون غيره من الموقّعين على المرسوم، في مفارقةٍ تبرّرها هوية المعترضين، الذين أعلنوا عن نفسهم منذ فترة طويلة كنواة معارضة للعهد ممثلاً بالرئيس عون على وجه التحديد، سواء منذ انطلاقته، أو منذ مرحلة الانتخابات النيابية وما أفرزته المعارك التي خاضتها في وجه "التيار الوطني الحر". وإذا كان صحيحاً أنّ أحداً لم يشكّك بـ"حقّ" الرئيس البديهيّ في التوقيع على مراسيم التجنيس، بوصفه واحدة من الصلاحيات "النادرة" التي بقيت بيده بعد الطائف، فإنّ ذهاب البعض لحدّ الحديث عن "أموال دُفِعت" لتمرير بعض الأسماء لم يبدُ في مكانه، خصوصاً أنّه لم يترافق مع أيّ دليل، في حين أنّ القاعدة القضائية البسيطة تقول إنّ "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".
قضية رأي عام
بمُعزَلٍ عن النتيجة التي ستفضي إليها التحقيقات بمرسوم التجنيس، والمنحى الذي ستأخذه الأمور في المرحلة المقبلة بعد تسلّم الأمن العام زمام الأمور فيه، وبغضّ النظر عن إمكان تعديل أو تجميد أو إلغاء المرسوم، فإنّ مجرّد إعلان وزارة الداخلية أنه تحوّل إلى "قضية رأي عام" يشكّل نقطة إيجابية.
فعلى الرغم من الأبعاد "السياسية" الحاضرة في تعامل الكثيرين مع المرسوم، الذي أريد له أن يمرّ بالخفاء، حملت هذه القضية إلى الواجهة "رأياً عاماً" قادراً على فرض كلمته إذا كانت مُحِقّة، رأي عام رُشِق بكلّ أنواع الاتهامات لكنه وصل في النهاية إلى جزء ممّا يسعى إليه، رأي عام سيكون مطالَباً بالكثير في المرحلة المقبلة حتى لا يضيّع ما حقّقه في متاهات اللعبة السياسية...